الجمعة، 20 غشت 2010

مسلسل الجماعة


الجـــماعة

مسلسل رمضاني بنكهة فكرية
مع مستهل كل رمضان تتفرخ القنوات التلفزية عن كم هائل من المسلسلات الدرامية، ويظل السؤال كبيرا: متى يسأم الناس من الدراما وقصص الحب ومسلسلات تمضية الوقت؟؟ وبعد المنافسة الدرامية المصرية والسورية استبشر المشاهد خيرا امام توالي مسلسلات تاريخية أو سيرية تقدم شخصيات كبيرة: أبو الطيب المتنبي، المهلهل، نزار قباني، الملك فاروق، أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، بيبرس الظاهر، صلاح الدين الأيوبي، لكن نجم هذه الشخصيات ما لبت ان افل ففي كل مرة وبعد كل مسلسل يكون الحديث طويلا عن تشويه ومسخ وإساءة للشخصية مدار المسلسل.

هذه السنة كان الإعداد جاريا على قدم وساق لمسلسل لا يقدم شخصية فقط، بل يجترئ ليقدم تاريخ جماعة الإخوان المسلمين والمسلسل من تاليف وحيد حامد وهو نفسه مؤلف وسناريست العديد من الأفلام :احك يا شهرزاد، الوعد، الأولة في الغرام،دم الغزال، محامي خلع..
والعديد من المسلسلات: الدم والنار، أوان الورد، العائلة...
وحيد حامد الذي لا تعجب أفكاره الاخوان المسلمين ولا تعجبه هو افكار الاخوان المسلمين بسبب مواقفه المسبوقة المضادة لتسييس الدين قرر هذه السنة ان يكشف عورة الاخوان المسلمين، بكشف تاريخهم ووسائلهم وطرائقهم ومناهج تفكيرهم.

أما المخرج فهو محمد ياسين أخرج محامي خلع، الوعد، دم الغزال، عسكر في المعسكر..وكان مساعدا في إخراج افلام رائعة مثل: شمس الزناتي، سوق النساء، ضربة معلم.. لذلك يعتبر محمد ياسين من أهم المخرجين القادرين على ترجمة الأفكار والقضايا الفكرية إلى دراما.




وهذه هي نقطة التحول في الدراما المصرية أنها أصبحت في العديد من المسلسلات تركز على رسالة المسلسل وحمولته الفكرية لتركز على ظاهرة حساسة. يتضح أيضا أن انتقال وحيد حامد المؤلف من التأليف للسينما إلى التأليف للدراما في المسلسلات، وانتقال محمد ياسين من السينما إلى إخراج المسلسلات وهو الانتقال الذي يعني أن مهارات وتقنيات الدراما السينمائية ستظهر حرفيتها في المسلسلات، فبتنا نرى أحداث المسلسلات في الواقع يعني في الشوارع وفي الخارج أما في ما مضى فقد كان التصوير يقتصر على مدينة إعلامية تتشابه حيطانها واماكنها.


بالعودة إلى مسلسل الجماعة فإن العديد من المتتبعين يعتقدون أنه يثير وسيثير نقاشا سياسيا وفكريا وامنيا ودينيا واجتماعيا، والحقيقة أن حلقات المسلسل تدعو المشاهد إلى التفكير مع أو ضد الجماعة.


على المستوى الفكري: في المسلسل شخصيات تحمل فكرا اديولوجيا معينا تقارع الحجة بالحجة وتدافع عن منطقها وتوضح المسببات والمنطلقات، والفكر هي حمولة لا يقتصر حامليها على الطلبة والمثقفين ففي المسلسل كل شرائح المجتمع هي قابلة للادلجة.




على المستوى الامني: تضخم ظاهرة الاخوان المسلمين والظرف العالمي أصبح يعني أن الاخوان معادلة مهمة في مسالة الأمن، لأن المسألة مسالة حكم وعقاب ومنهج حياة وهو ما يقود لنقاش سياسي عميق

على المستوى السياسي: الدين والسياسة هي أطروحة هذا المسلسل، الدين كمسألة خاصة وفردية وكمسالة جماعية، الأحزاب وقدرتها على الاقناع وجماعة الاخوان المسلمسن وقدرتها على الاقناع.

على المستوى الديني: والنقاش عميق ومتشعب للغاية، لأن الدين يمس جميع مناحي الدنيا ليطرح مسألة التشدد والتطرف من خلال ظواهر اجتماعية.

على المستوى الاجتماعي: كل قوالب الفكر والسياسة والدين هي اجتماعية لان أحداث المسلسل تجري في المجتمع المصري الحاضن لكل الظواهر السياسية والدينية والفكرية والأمنية.

يقدم المسلسل شخصيات رفيعة في جماعة الاخوان المسلمين ويبدو انه تفادى إظهار خصوصيات هذه الشخصيات وركز على المنحى الفكري في حياتهم، والمسلسل يقدم شخصية حسن البنا انطلاقا من مذكراته وكتبه ولا يجزم بتأكيد كل الوقائع التي يرويها حسن البنا عن نفسه غالبا، ويبدو أن شخصية البنا قد اتخذت مكانا محوريا بالنظر إلى مكانته واعتباره المؤسس الأول للجماعة الاسلامية بمصر وبالعالم العربي، ويبدو ان هذا الشق في المسلسل سيكون مفيدا لاتباع وأعداء حسن البناء وسيكون مثار نقاشات ملتهبة، لكن الأكيد هو أن الزمن تقدمي بطبعه وسيكشف أن الكثير من مواقف حسن البنا متجاوز.


لن نستعجل الحكم على المسلسل أو ضده وهو ما زال يبت على القنوات المصرية وسنترك الحكم إلى ما بعد نهاية المسلسل لأننا نعرف أن أوار نقاشاته لا شك سيتصاعد.

الاثنين، 16 غشت 2010

المحطة الطرقية لإنزكان مأوى اللصوص والنصابين




المحطة الطرقية لإنزكان مأوى اللصوص والنصابين






مدينة العابرين أو المدينة التي لا تنام، أو محطة سوس، تعدد ت الأسماء والمكان واحد هو مدينة انزكان التي أصبح اسمها مرادفا للزحام والاسواق والنصب والاحتيال، وحق فيها أن نقول الداخل مفقود والخارج مسروق.
هذه المدينة التي لا تتجاوز مساحتها 14كلم تعرف حركة دائبة ومستمرة بسبب أسواقها ومحطتها ويكفي أن نعرف أنها تحرك اقتصادا يؤثر في ربوع المملكة، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا ان الفواكه والخضر التي تباع في أسواق انزكان تصل إلى حدود نهر السينغال والنيجر وإلى وهران وتلمسان والجزائر العاصمة عندما كانت الحدود مفتوحة فضلا عن البواخر البحرية المدنية منها والعسكرية التي تتزود بمؤونتها من مدينة إنزكان، وعشرات الفنادق والإقامات السياحية بالجهة . كما أن سوق إنزكان يروج ما قيمته 60 في المائة من الخضر والفواكه على المستوى الوطني، ويعتبر السوق الثاني بعد الدار البيضاء، مناسبة هذا الكلام هو ما تعرفه العاصمة الاقتصادية لسوس أو محطة سوس التي هي انزكان خلال الصيف من فوضى وتسيب وانعدام الأمن في أسواقها وفي محطاتها. والصورة التي يأخذها المسافر الذي يعتبر سفيرا سيقصد كل مناحي المغرب لينقل الصورة السلبية عن هذه المدينة/المحطة.
وسيقتصر حديثنا هنا على دواهي وسواهي المحطة الكبرى بإنزكان، ففي الوقت الذي يجب ان يستاثر اهتمام المسؤولين والجهات الأمنية بقلب انزكان النابض على اعتبار أنه المكان الذي يحج منه الناس وإليه، ويأخدون انطباعا إيجابيا او سلبيا لن نجد في هذا المكان ما يبشر بخير، فهو قبلة للصوص والنصابين، وملجأ للأطفال والمشردين والمتسولين، ومركز الأمن وجد فقط لتقديم الشكاوي.

الهواتف المسروقة
في كل مرة تزور فيها انزكان ستجد نفس الوجوه يترصدون حافلات الركاب العابرة للنصب على مسافر جديد، يقدمون له هاتفا خلويا آخر موضة في السوق ويستدرجونه لشرائه بثمن البطاطس، طريقتهم في النصب أنهم لا يوافقون على البيع إلا في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق الحافلة، حينها يأخدون المال أو يقايضون الضحية بهاتف آخر وبحركة خفة سريعة يسلمونه الهاتف نفسه الذي يريده من حيث الشكل، لكن داخله لن يجد إلا قطع الألدون أو القصدير وزجاجة مرآة يوحي جانها المقلوب بأن الأمر يتعلق بشاشة مطفأة. النصاب يختفي بعد أن تقله دراجة



نارية على أهبة الانطلاق. تتكرر عملية النصب هذه كل يوم وتتكر الشكاوى.

النصب بالمعاكسات
للنصابين سلاسل
في لون الذهب، يترصدون بها زوار المدينة/المحطة بعد اختيارهم بعناية، وخاصة السيدات اللواتي تبدو عليهن النعمة والسذاجة، طريقتهم هي تقديم السلسة كطعم، يكفي أن يضعها في يدها، ليمارس ضغوطاته ومعاكساته وملاحقته للسيدة بشكل يجعلها مرتبكة وخائفة ومستفزة، عله يظفر منها بثمن للسلسلة، أو عله يتمكن من انتشال مالها.. وهو عادة يخبرها بأن السلسة مسروقة وأنه يطلب أي مقابل أو يتظاهر بأنها متلبسة ما دامت تحمل شيئا مسروقا. والطريقة ذاتها تتكرر أمام فلان وعلان في واضحة النهار دون أن يتم التصدي لأمثال هؤلاء النصابين المتعرضين للناس.

المترصدون
هي تلك العيون التي تترصد القادمين على المدينة وهي عيون خبيرة ومتخصصة ولا ترمش أو تغفل، فهي تعرف الحافلات وسيارات الأجرة والمناطق القادمة منها، وتنتظر أدنى هفوة لتصيد حقيبة أو غنيمة او جيبا صاحبه غافل بسبب



الزحمة والانشغال وهوما حدث هذه العطلة على سبيل المثال لسيارة خاصة توقفت قرب حافلة لتضع او تستلم حاجتها من الحافلة، فإذا بقناص يصطاد حقيبة من داخل السيارة بها كل رزق الضحايا.
بل ومن هذه العيون من له وسائل نصب تؤتي أكلها، فقد يستقبلك أحدهم بالأحضان ويناديك باسمك وتجده يعرف عملك وموطنك، والأمر فيه من دقة رصد النسر الكثير لان بعض النصابين يعرفون ضحاياهم، هؤلاء الذين يجهلون كل شيء عنهم، ويتفاءلون وينبهرون حين يجدون من يعرفهم في مدينة بعيدة ومزدحمة لا أحد يسلم فيها على الاخر، بعد ركن التعارف تبدأ مسرحية التباكي والاحراج ليجد الضحية نفسه يقدم الغالي والنفيس لصاحبه الذي يعرف عنه كل شيء حتى حنيته وطيبوبته وكرمه.
ومن المترصدين من ينتقون ضحاياهم من النساء أو الأحداث أو الفتيات اللواتي يظهر عليهن السذاجة وقلة الخبرة فيتتبعون آثارهم إلى حين الايقاع بهم.

المتسولون
في انزكان هناك انواع تتفاوت من حيث درجة الابداع في فن التسول، خاصة على أعتاب المحطة الكبرى.. فهناك نساء يجدن البكاء الذي يقطع نياط القلب، لا تطلبن شيئا غير من يخرجهن من الطريق ويسدد مصاريف السفر الطويل، ولولا أنهن موجودات دائما بالمحطة لصدقهم الناس. أخريات يوزعن وريقاتهن بهدوء وصمت ليقرأ المسافر حالتهن المأساوية، ثم يعدن لجمع الوريقات مع ما سخا به المسافرين. ثم هناك من يدغدغ مشاعر المسافرين الدينية فيقرا قرآنا أو يشعل شريطا لمقرئ مجيد. وهناك ايضا من يحمل معاقا او من تحمل أطفالا بشكل يثير الشفقة. ومما يزيد الأمر سوءا ان انزكان اصبحت قبلة الأطفال المشردين لذلك ستجدهم في لون الطريق المعبدة يبحثون بين الجيوب والعيون والقلوب عن كسرة خبز أو ما يزيد تخديرهم.

الخدمات المجانية
نقصد بالخدمات المجانية أنها خدمات لا تستحق مقابلا لان أي شخص يستطيع ان يقدمها لنفسه، مثل الدخول إلى المحطة أو فتح باب سيارة نقل أو الاتجاه نحو خط نقل، لأنك في محطة انزكان ستجد أكثر من مرشد عند باب المحطة لا يرى فيك إلا رقما بخسا، ولأنك أحيانا ستجد من يفتح باب السيارة لك ويساعدك على الصعود وسيشفع ذلك بطلب بقشيش، أو قد تجد في ساعة الشدة والزحمة من يحجز لك مكانا بعد ان يترصد السيارة أو الحافلة على بعد كاف، كل هذا وخدمات كثيرة حتى لتخال انهم يوما ما سيستقبلونك لدى وصولك إلى محطة انزكان ويعرضون عليك توفير الحماية إلى حين خروجك سالما، ما دام الأمن غير متوفرا.




هذا غيض من فيض مما يقع في واضحة النهار وقارعة الطريق أمام الملأ، وفي مخافر الأمن بهذه المدينة من الشكاوى ما يؤكد ذلك ويفوق، فما خفي أعظم وهو ما يجعل الحاجة ماسة
إلى تقوية الأمن وحماية المواطنين العابرين والقارين، لقد دقت نواقيس الخطر في أكثر من مناسبة معلنة أن أذى هذه المحطة يتعاظم حتى ليكاد يصبح أكثر من خيرها. فمتى تتعامل الجهات المعنية مع هذه المعطيات باهتمام ودون اهمال او تهاون.



شكيب أريج

السبت، 14 غشت 2010

صيف وطار الأخير




صيف وطار الأخير

طه عدنان





في صيف 1989، وقعت بين يدي رواية "عرس بغل" للطاهر وطّار. شدّتني منذ العنوان، لأجدني منغمساً في أجواء ماخور العنّابية وصويحباتها أتعرّف على روّاده وعلى رأسهم بطل الرواية الحاج كيان. الحاج كيان خرّيج جامعة الزيتونة الذي حاول الترويج لدعوة شيخه حسن المصري في ماخور العنّابية قبل أن تريَه هذه الأخيرة جنّته في الدنيا قبل الآخرة. هذا البطل السلبي (نكايةً بالبطل الإيجابي الذي يهيمن في أدب الواقعية الاشتراكية التي يُعدّ الطاهر وطّار أحد فرسانها العرب) كانت تداعياتُه وتأملاتُه طوال الرواية تقرّبنا من ملامح حقبةٍ من تاريخ جزائر ما بعد الاستعمار. ورغم أنني قرأتُ الرواية بعد كتابتها بقرابة عقد ونصف، إلا أن أجواء بداية الانهيار الكبير للاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وتنامي المدّ الأصولي في الجامعة المغربية جعلاني أجد فيها قدراً كبيراً من الرّاهنية. "عرس بغل" لم تكن مجرّد رواية، بل كانت درساً بليغاً في السياسة والحياة للشاب الذي كنتُه. كانت تحريضاً على الهروب من ذلك الاصطفاف المريع الذي كانت تعرفه رحبة السياسة إلى رحابة الأدب حيث لا صفوف ولا طوابير.

في صيف 1993، كنتُ أقيم رفقة أخي ياسين في فندق بشارع ديدوش مراد في قلب العاصمة الجزائرية. وهناك تعرّفتُ على عمي الطاهر لأول مرة. كان يشتغل في "الجاحظية" بهمّة شاب في مقتبل الحلم. وكنّا نزوره بمقر الجمعية ليعزمنا على طبق الشكشوكة بالمطعم المجاور. كان صديقه الشاعر الراحل يوسف سبتي على قيد الشعر والحياة لا يزال. لم تمتدّ إليه أيادي الغدر والظلام التي كانت تعيث اغتيالاً في جزائر تعمّها حالة فلتان أمني على إثر انتخابات 1992. كانت "الجاحظية" مرتعاً لخيرة أدباء الجزائر الجدد من جيل ما بعد انتفاضة 88: عمّار مرياش، عادل صيّاد، نجيب أنزار، سليمى رحال. وكان الطاهر وطّار عمّ الجميع الذي يفيض حبّه ليشمل الكلّ.



في صيف 2007، عدتُ إلى الجزائر بعد زهاء عقد ونصف من الغياب. كنتُ مشاركا في إقامات الإبداع التي أشرف عليها الشاعر حرز الله بوزيد بمناسبة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية". في الخامس عشر من أوت، أخبرنا بوزيد أنه يوم عيد ميلاد عمّي الطاهر. هكذا قررنا زيارته بشكل جماعي في مصيفه الصغير على شاطئ "شينوا بلاج" بمدينة تيبازة الساحلية. كان وطّار سعيدا بنا. وكانت مدام رتيبة أسعد وهي تهيئ لنا المجلس وتتعهّد زوارها الطارئين بالحبّ والمشروب. أطللتُ على كومبيوتر عمّي الطاهر لأجد صفحة وورد مكتوب عليها بالخط العريض: "قصيدٌ في التذلل". لم يكن أحد يخمّن أن هذا القصيد سيكون مشروع الطاهر وطّار الروائي الأخير.

عندما عدتُ إلى الفندق، كتبتُ الآتي: ولمّا رسونا / على شاطئ "تيبازة" / كنّا خفافاً من الشعر / وكان الوليّ الطّاهر / المتوحّد في "لازه" / الأشعرَ فينا / بالقصيد الذي من تذلّل / وملام / هناك في مقامه الزّكي / كان يرقب انكسار الوقت / على صخر الحطام / مثل ملاح أبيّ / أحاطت به الريح / من كلّ غمام / فأبحر في الغواية / والرواية / والمقام / وأوعز للموج / أن لا تُخاطر / نثر الجزائر / شعرٌ / وشعرٌ / حديث الجزائر / مقام الجزائر / عمرٌ / من البوح / والحرف ثائر.



في صيف 2009، كان وطّار يتابع حصص العلاج الكيميائي بالعاصمة الفرنسية. أعطاني الشاعر الصديق عمّار مرياش رقم هاتف شقته الباريسية القريبة من مستشفى سان أنطوان لأتصل به. كان صوته ضعيفاً، لكنه بدا سعيدا بالمكالمة. وطفق يسألني عن ياسين وعن برنامجه "مشارف". كما كلّفني بأن أوصيه بالاهتمام بوزنه الذي يجد أنه قد زاد قليلاً عن آخر مرة حلّ فيها ضيفاً على برنامجه. رجوتُه أن ينسى ياسين ووزنه ويهتمّ فقط بصحته، وبروايته "قصيدٌ في التذلل" التي كان يشتغل عليها كما لو يسابق الموت.



في صيف 2010، على بعد ثلاثة أيام من عيد ميلاده الرابع والسبعين، كتب الشاعر الجزائري عادل صيّاد على صفحتي في الفايسبوك هذا النعي: "قبل لحظات ودّعنا إلى الأبد الروائي الجزائري الكبير عمّي الطاهر وطّار بعد صراع طويل مع المرض، إنا لله وإنا إليه راجعون". رجعتُ إلى مذكرات الطاهر وطّار "أراه..." لأقرأ ما يلي: "الموت لا يرهبني، وهو بالنسبة لي تجربة لا بد من التعرّف عليها. لا بد من الإطلال عمّا هنالك، وراء العالم الحالي، وراء هذا الجدار البلوري الرهيف". كان بيني وبين عمّي الطاهر حاجزٌ بلوري جعلني أقتنع بغير قليل من الأسى أن صيف 2010، كان صيف وطّار الأخير.

طه عدنان

بروكسل، 13 أوت 2010

الأحد، 8 غشت 2010

هل يساير الخطاب الديني عصرنا الحاضر ام لا؟



الإسلام والخطاب الإسلاموي

- مصطلح الخطاب يثير الكثير من الكلام سواء على المستوى الأدبي أو على المستوى الديني وقد ألفت فيه كتب ودراسات، وحسب علمي المتواضع هو الطريقة والمنهج الذي لا يخلو من مرجعية مؤسسة له.
وقد قلت أنه يثير الكثير من النقاشات لأنه عادة ما يتم نقد خطاب ما، فيرد صاحب الخطاب المنقود بان النقد مس الأصل الذي هو في ما يتعلق بالدين: الإسلام. فأصبح نقد الخطاب الديني مسألة عسيرة، تؤدي في الغالب إلى سوء الفهم وإلى التكفير.
لذا أوضح أولا أني حين أنتقد فرقة دينية فإني أنتقد خطابها، وهذا ما يعسر فهمه في كثير من الحالات وهو ما يجعل النقاشات الدينية جامدة ومتوقفة ولا تتجاوز الاستنساخ عن الاستنساخ.

أصل الداء في هذا الخطاب أنه ينطلق من رؤية أحادية تعتقد بجدوى طريقة نقلها للدين كما تعتقد بالدين نفسه؟ فإن خالفتها يقال لك أنك خالفت الدين.

ويسعى أصحاب أي خطاب إلى اعتماد النص المقدس، ليس المهم النص، المهم استعماله كـ"جوكير" أو كخدعة المصاحف في واقعة صفين، حين انتصرت فئة علي فأشار عمرو بن العاص إلى جنوده أن يرفعوا القرآن ويقولوا بيننا وبينكم كتاب الله.
منذ ذلك الحين تفرقت الخطابات ولا زالت تتفرق من صوفية إلى سنية إلى شيعية إلى سلفية إلى تكفيرية، ونعرف جميعا أنها خطابات كل واحد منها يسعى إلى تمثيل الاسلام وما هو بالضرورة بالاسلام.

مسألة أخرى على غاية من الأهمية : التفكير في الاسلام أو التفكير الاسلامي ليس بالضرورة أن هذا النمط من الخطابات اسلاما.

لذا فلن تكون كافرا إن حدت عن خطاب الشعراوي أو ابن تيمية أو ابن كثير، ولن تزيغ عن الطريق إن خرجت عن معالم الطريق لسيد قطب أو حسن البنا.

ما دامت هذه التوابت منهارة وهذا الخلط بهذه الفظاعة فلا أعتقد أن الخطاب الديني يتطور، إنه يتجمد يوما عن يوم،وهو يستقطب غالبا الذين لايقرؤون ولا يعقلون، فملكة المطالعة شبه منعدمة عندهم أو محصورة في فلك خطاب هش.

والملاحظ أن فوبيا تبادل الاتهامات بين الخطابات لم تسلم منها الفضائيات، فأصبحنا نسمع هذا الشيخ يتعرض لذاك بكلام لا يتناسب مع موقع خطابه، والأصل ان كل شيخ لا يمثل إلا نفسه وسياق الكلام الذي يهدر فيه، أما النصوص التي يلهج بها - وخارج السياق- فهي المشترك الحقيق- وهي الإسلام البراء من أي توظيف قد يستعين ببلاغة اللغة وبارتفاع الصوت ونبرته والحركات البهلوانية التي عاينت بعضها، ناهيك عن أشكال المسكنة واللطافة والطيبوبة التي يتدربون عليها، وغني عن الذكر أن العالم لا يحتاج إلى أن يضحك في وجهك لتصدقه أو يتلاعب بمشاعرك وأسماعك.
قد يقول قائل وما الضير في هذا المظهر الذي لا يهدف إلا إلى الاستمالة؟
فأقول له إذا كانت المسألة متعلقة بالمظهر والحركات، فالفضائيات أصبحت توفر ما يحبه المشاهد المؤمن؟ هذه القناة تقدم أصحاب اللحي الطويلة والأخرى اصحاب البذل وربطات العنق وأخرى مقدمات بجمال لا تخطؤه العين؟

هو إذن عصر الخطابات الشكلانية التي لا توجهك لقراءة هذا أو ذاك، لا تطرح عليك أسئلة تجعلك تبحث.
تشغلك بحكايات السلف عن وقائع ونوازل تقع لك في كل لحظة وتتركك في حيص بيص من أمورك المعاشة، همها زارعة أفيون الماضوية في رأسك، واستعادة الفردوس المفقود، هي خطابات تشغلك بالسفاسف، في مقابل إغضاء النظر عن التوابث، هي خطابات مليئة بالتلقين والمعرفة الحقة التي لا يأتي الباطل من بين يديها، إذن فاسمع، واحفظ، وطبق. وأي تساؤل أو ريبة أو تحقق فهو ضعف إيمان، رغم أن هذا التشكيك هو في طريقة الخطاب وتوظيف النصوص ومدى مشروعيتها أحيانا حين يتعلق الأمر بنصوص تبث الطعن في سندها.
أسوق هنا واقعة حدتث لي، حين كنت أركب مع أحد المتعصبين في سيارة الأجرة حين تجرأ على التدخل ومنع صاحب السيارة من الاستماع إلى المذياع، ولما دخلت معه في نقاش قادنا إلى ابن كثير تبث لي أولا بأنه لم يقرأه أو يقرأ منه، بل سمع عنه فحسب والغريب أنه يسمح لنفسه بأن يتهمني بضعف الإيمان لأني أرفض أن آخذ بتفسيره في تلك المسألة بالذات. فأكيد أن هذا الشخص قد تبث له أني كافر ما دمت اعترضت خطابه ومستلزمات خطابه، وأحمد الله أنه لم يؤذني، خاصة أني كنت أضع رقبتي أمامه، وهو جالس في الخلف، وهو لم يتورع عن محاولة ايقاف السائق ومسكه من يده وهو يسوق.

هذا بالطبع لا يمثل الإسلام، ولا يستحق أن أستشهد به، ولكن رغبة مني في تأكيد أن هناك خطاب هو الأكثر اعتقادا بجدواه وهو الأكثر بعدا عن الإسلام. أما الذين يمارسون اسلامهم الحقيقي فدائما ما يتعرضون للتهويل من جرمهم، والتهوين من عباداتهم الصادقة النية لله تعالى.
كما قلت في البداية كلمة الخطاب هي كلمة علمية أثير حولها نقاش مستفيض
لا أتفق مع التبسيط الذي تقدم به عادة، وأدعو إلى قراءة كتب عن الخطاب ففيها الفائدة العميمة
ونكتفي بالقول هنا أن الخطاب هو طريقة الدعوة، طريقة التفكير في الإسلام، طريقة تقديمه عبر القنوات وفي الكتب وفي الأنترنيت .
هل نحن راضون عن طبيعة الخطاب المهيمن؟
هل يساير العصر؟
هل يؤدي وظيفته؟
هذه بعض الأسئلة المهمة التي يطرحها هذا النقاش ونرجو أن تكون الإجابة عنها والتفاعل معها لما فيه خدمة هذا الدين وخدمة هذه الأمة؟
نقد الخطاب لا يعني الهدم، يعني إغناء الخطاب، الإشارة إلى ثغراته، إلى ما يحتاجه..الذي ينتقد الخطاب لا ينظر للشيوخ بمنظار التقديس والانبهار؟ هل ينظر إلى محمولات الخطاب.؟
هل يكفي أن تكون محمولات مديلة بأحاديث وآيات لتكتسب شرعيتها؟
هل يكفي أن تكون لها أهداف نبيلة لنقول بنجاعتها؟
هل يكفي أن يكون الشيخ نجما لنأخذ منه؟ هل نأخذ الدين أم نتلقنه أم نتشربه؟ هل نحفظه أم نفهمه؟
ما الذي يحدد قيمة الخطاب وأهميته ونجاعته في إيصال الإسلام الحقيقي؟ أهو الشيخ، مظهره وحركاته؟ أم هو مضمون كلامه وحسن نواياه؟ أم هو طبيعة تفكيرنا ووعينا؟
هذه بعض الأسئلة لتحريك البركة الراكدة، لكي لا يكون الخطاب عقيما، ولكي لا يكون متلقي الخطاب بليدا.

هل تحدث عن الدين؟
أكيد لا، فأنا تحدتث عن الخطاب الذي يدعي أنه الدين بعينه .


شكيب أريج

السبت، 7 غشت 2010

قصة الوجه والمؤخرة- زينب فهمي



الوجه والمؤخرة

من مجموعة ورقية نقلها الى الحاسوب
شكيب أريج
استدارة مؤخرتها تملأ حيزا كبيرا من السرير العريض،، ثنية ردفيها الثقيلين مثقلة بنتوءات لحمية متزاحمة،،

من داخل بلعومها الوشيك على الغثيان انتشرت في الفراغ المحيط برأسها رائحة أمعاء فارغة. قاومت النوم في جفونها،، فركت يديها. نظرت إلى أسفل قدميها،، إلى أسفل جلستها المتربعة،، نظرت إليه،، أظافره بادية، قريبة من رأسه المطروح قرب استدارة مؤخرتها،،

حملقت أكثر: أظافر كبقع هاربة من ظهر سلحفاة برية،، زوايا الأصابع ذات مغارس متآكلة، وبقايا وسخ قديم تجمد فوق الجلد أيضا، مثل مخلفات لوح منخور داخل حمام بلدي عتيق.

من هو؟ ولماذا يوجد هنا؟

تذكرت: أربع وعشرون ساعة ماتت حين وجد بقربها،، في وجهها،، في غرفتها. غالبا انقرضت أربع وعشرون سنة حين نام هنا- فكرت في غير تركيز- وقبل أن ينام حملق. جحظت عيناه في وجهها،، كشف عن أعمدة قصيرة وسخة مهدمة بين شدقيه،،

هل ضحك حقا قبل أن يرتمي عليها،، يسقطها أرضا،، يعريها،، يفري جلدها،، يجرحه ويدميه،، يمتص ثدييها،، يعتليها ويعرق بإرهاقها،، ثم يبصق من تحته فائضه الغريزي عندها مهتاجا،، لاهثا،، لاهثا حتى الموت،،

وحين ينطرح هنا مهدما معوج العضلات،، منتهيا باستغراقه في النوم يحيى بقوة أرقها،، شعورها بالقذارة في جلدها،، بين عينيها،، في أحشائها وأثوابها وعبر فضاء الغرفة المشحون برائحة اغتصاب كريه لها من طرفه،، من طرف الوصي عليها الذي أقصاها عن الحياة وأسكنها كهف مومياء عتيقة، فقط بعقد مستعجل كتبه باسمها واسمه عدلان وديعان أو جشعان غالبا،، حكاية عادية،، قصة مكررة وعملية رخيصة: أن تعيش يوما وراء آخر على هذا النحو المزري،، عملية قذرة عطنة مفرحة للآخرين (ليلة عرس مأتمي) قيدها موسوم في اللحم، مزرقا،، وفي الجرح الذي لم يندمل ولا أبدا،،

من هو؟ مجتمع غبي رخص له في لحظة أن يفترشها،،يمتصها،، يطفئها. يدفع بالقيء إلى حلقومها ملمسة،،تبغه. رغباته المتصابية منصبة في بصرها بعنف،، في اللحم اللدن الأصفر البارد، لحمها!

واستدارت كلها نحو جسده العنكبوتي الرخو المسلط على سريرها منذ الفجر، منذ الأمس،، منذ بداية هذا العالم! وغمغمت لنفسها:

- والآن إني أرفضه وبدون جدوى أفعل ذلك،،

في تلك اللحظة خفت شخيره،، هزها لذلك ذعر مفاجئ،، أخو في سبيله إلى اليقظة من نومته الثقيلة ليمتصها من جديد مثل (ادراكولا) تخلف ركبه المشؤوم عن السنين؟ مخطئة،، هي واهمة. إنها مخدة مربعة مطرزة تتدحرج بقربها وبقربه،، تحجب جانبا من وجهه قرب مؤخرتها الكبيرة،، تلك المخدة حدت قليلا من صوت شخيره البغيض كما لو حدث وتلاشى ببطء وقع منشار حاد في عقلها،، تراخت أعصابها،، فتحت أمامها نافذة كبيرة وهمية على فضاء شاسع أزرق شديد الصفاء.

على حين غرة هجمت ريح عاتية،، إنها تمطر الآن في أعماقها قطرات تغسل بقايا عنف قذر. بقايا معركة لا إنسانية،، معركة المجتمع والفرد الواحد غير المتكافئة أبدا. وتغسل أيضا بقية عذاب لا صوت له.

تسمر نظرها عليه،، على نصف وجهه الظاهر بجواز المخدة المربعة المطرزة الأنيقة،،،

تعصف الريح أكثر،، لطماتها تصفع وجهها ذا النظرة الكسيرة المندهشة في ذهول متزايد. في تساؤل طفولي ( أبهذه السهولة تفتح نوافذ الأمل في وجوه الآخرين من جديد؟)

وهي ترتفع قليلا،، ببطء مثير للجدل، ترتفع بنصفها الأسطواني ذي الردفين الثقيلين لتهوي به- كما يهوي خفاش جريح يصارع- على المخدة التي أحكمت وضعها جيدا فوق الوجه والشخير معا!

القنيطرة- ربيع1971

من مجموعة (تحت القنطرة) دار الكتاب- البيضاء- الطبعة الأولى 1976- ص53-54-55