الأحد، 23 يناير 2011

قليل من الملائكة لعبد الله المتقي.. زخات وشقشقات، تحيات للقلب والنفس

قليل من الملائكة لعبد الله المتقي

زخات وشقشقات، تحيات للقلب والنفس

الكتابة لدى المتقي هي مثل زخات المطر، كلمات هي أو نوتات أو نقاط منتقاة بعناية فائقة. متواليات هي أو شقشقات عصافير مكتوبة بماء الشعر. أفكار هي أو تحيات للقلب والنفس مشبعة/مفعمة بروح الفلسفة.


1- الكتابة بوصفها زخات مطر:
إذا صح أن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر، فقد صح أن السماء انطوت في كتابات المتقي، وهو ما قصدناه بأن كلماته زخات، بحيث يعطي وقعها واقتضابها الانطباع بأننا حيال نصوص تمطر في دواخلنا.
ماذا تمطر سماء المتقي؟
أعتقد أنها تمطر أشياء تافهة، لكنها حميمية (فرشاة أسنان/مشط بلاستيكي/قنينة شامبوان/حبييات غاسول..ص14) أشياء عادية لكنها بالغة الخصوصية (معطف أسود يرتعش من البرد/ كرسي يجلس القرفصاء/ علبة أنسولين..ص16) أشياء مغرقة في الأحلام والكوابيس (فندق باذخ/مسبح دافئ/سيجارة كوبية/ذاكرة فسيحة من الحروب/ساق نصفها من حديد فرنسي..ص43)
الكتابة الممطرة يلمسها القارئ في النفس المتقطع، في الكلمات التي تنقر على لوح أبيض كزخات مطر ذات شتاء دافئ، فهي كلمات تتوخى أن تترك انطباعات ما..انطباعات حميمية في أحايين كثيرة، أو انطباعات حزينة في أحايين أخرى، وانطباعات شتى موزعة بين الحيرة والدهشة والغرابة والرتابة..
هي تمطر بشكل جميل يجدد بمعانيه حواسك وعواطفك ويعيدها غضة طرية كما فطرت من قبل، شريطة أن تُطبِق عيناك بعد كل كلمة، لأنها كما أسلفنا لا تمطر خارجا، بل في دواخلنا.


2- الكتابة بوصفها شقشقات عصافير:
أ‌- شقشقة "امرأة..رجل"
ثمة رجل وامرأة " في نصوص المتقي، بل في حبر المتقي، ينفلتان كلما أراد عبد الله المتقي الكتابة:
- "امرأة ورجل مهملان في الدش" (غاز ص14)
- "تنصل الرجل من ثيابه الداخلية ونام(..) تنصلت المرأة من سروالها الخفيف ونامت قريبا من رجل.." (بحيرة الشيوخ ص20).
"رجل وامرأة" هما الشخصيتان الأثيرتان في رحاب (قليل من الملائكة) ولنا في ذلك أمثلة أخرى كثيرة:
- "رجل جمع حقيبته (..) امرأة تحدق مليا" (بندولان ص22)
- " رجل يستمع لضجيجه(..) امرأة تطل على ضجيجها" (قبعتان- ص25)
- "المرأة تلاعب أرنبة الرجل، والرجل يخلل أصابع المرأة" (مشهد سوريالي- ص27)
"امرأة..رجل" كلمتان خفيفتان في النطق، ثقيلتان في متن المتقي، فأينما كان هناك امرأة فثمة رجل:
- "كان هناك امرأة (..) كان هناك رجل أيضا" (رائحة الحب- ص31).
- "ثمة امرأة تصفف شعرها (...) ثمة رجل ملتحي يطل من إطار بلاستيكي" (شن وطبقة- ص75-76).
لا شك أن لهذه الثنائية البوليفونية سحر خاص، مما يجعلنا ننبه إلى تغلغلها في اللاشعور المتعلق بالكاتب والقارئ على السواء، مما يدعو إلى تخصيصها بدراسة مستقلة.



ب‌- شقشقة الشعر:
"الأشجار حافية من العصافير" ص30

"لمساء الجمعة قلبان صغيران" ص68

"الجزيرة التي تضطجع هنا في البحر" ص53

"كرسي يجلس القرفصاء" ص16

" انطفأ الرجل، أسدل جفنيه" ص20

هي عصافير اللغة تطير بعقلك أو في عقلك، فالجمل في كتابة المتقي أشبه بشقشقة العصافير ذات صباح ربيعي. هي تخلق صوتها ولونها لأن عبد الله المتقي يحمل اللغة من سياق اليومي المستعمل إلى سياق لا اعتيادي، لا مألوف. وهي- الجمل- تتقدم نثرا وشعرا، سردا ووصفا لتجعلك صحو الإدراك حيال الطبيعة، الإنسان، العالم، الأزمنة، الأمكنة، الأشياء..
وظيفة الإيقاظ الشعرية هاته تندغم في متواليات المتقي اللغوية لتجعل رأس القارئ عشا لطائر أسطوري يسمى "الخيال".

3- تحيات القلب والنفس
نصوص (قليل من الملائكة) هي تحيات للقلب والنفس، في تأملها اقتراب من جوهر إنساني شفيف، وفي نصوصها المخمورة بنوستالجية الحنين عذرية الصباحات الممطرة.
هي نصوص نحسها تسعى جادة إلى تغيير العالم مستلهمة عبارة كازانزاكيس حين يقول: "بقليل من الجنون نغير العالم"، وبقليل من الجنون تتدثر الكثير من نصوص المتقي خالقة مشاهد سوريالية، كما هو الشأن في نص (مشهد سوريالي- ص27)، ونص (حياتي- ص21) –على سبيل التمثيل لا الحصر- وفي نصوص أخرى يستبد الجنون بالكتابة نفسها فنقرأ في (لذة ناسفة- ص32): " لم يعد يتحكم في لعابه، انتهى، وانتهت القصة." وفي نص "أعور" نلمس كيف ينكتب النص بجنون ميتا-نصي:
" مخبول في باحة الضريح، يفلي عانته بأصابع قذرة.
طفل: أصابعه كما لو أنها أحدية تعدو
طفل ثان: بحثا عن أرنب أعور
بنت: في غابة قاتمة.
يُحكم المخبول سرواله، و..يدخل قبة الضريح، تاركا خلفه كثيرا من الضحك.)
الجنون يولد السؤال والحيرة لدى القارئ، وهو ما فطن له الكاتب التونسي عبد الدايم السلامي حين قال: " تنهض قصص هذا الكتاب (يعني مجموعة قليل من الملائكة) على دعامتين: السؤال والحيرة" فحقيقة النصوص أنها أسئلة معلقة، مثيرة، صادمة، عاصفة، هادئة، طريفة،عميقة،مدهشة، داعية للتأمل والحيرة.
كما لا يخفى على القارئ نزوعها- النصوص- إلى الانتهاك والتحديث، وأول ما تنتهك هو أفق الانتظار المتصلب الذي ألِف شخصيات (كامل الأوصاف فتني) وحبكة (البداية-العقدة-النهاية).
ويبرز التحديث على مستوى الشكل والمضمون، بحيث نقرأ لغة يومية مألوفة في سياق جديد متخفف من تكاليف الكتابة وحواشيها وزوائدها ويكفينا نص (FREE TIME) للتدليل على مدى التحديث الذي طال الكتابة لدى المتقي:

"نادل مقهى FREE TIME، مريض بفلسطين...
يراقب فسفور الموت بدموع ناشفة...
- وماذا بعد؟
وفي مقهى كهذه، سيكون على النادل تلبية طلبات زبنائه اليتامى:
قنينات البيبسي المضببة،
سجائر المارلبورو
ثم يكنس رماد الجثث في العاشرة ليلا) ص18
هكذا يكتب المتقي نصوصا تنطوي على الكثير من العفوية والعاطفة وكثير من الحدس والتأثير. والقارئ المتأمل بعمق لهذه النصوص لا يملك إلا أن يهتز كما تهتز صفحة البحيرة الهادئة عندما يصطدم بها حجر صغير، فتتسع الدوائر.. دوائر الدهشة، الحب، الحيرة، الجنون، السؤال...
شكيب أريج
MATARMATAR@MAKTOOB.COM
WWW.MATARMATAR.BLOGSPOT.COM

ليست هناك تعليقات: