الجمعة، 23 أبريل 2010

شذرات من يوميات بودلير


شذرات من يوميات شارل بودلير


الأفـــق الإنساني الأعمق


هذه الأيام قرأت يوميات شارل بودلير، والحقيقة أنها عبارة عن كتابة شذرية لم يكن بودلير يطمح لإصدارها، وإنما أتيحت الفرصة لطبعها ونشرها بل وترجمتها بعد موته.

هي كتابة شذرية، كتابة غير مشذبة، إنه شارل بودلير على سجيته، بدون رتوشات. وإذا كان بودلير قد عبر في حياته عن فلسفة التناقض أو الحق في التناقض، فإن التناقض يبدو أوضح ما يكون في كتابته الشذرية أو يومياته، لقد أعجبتني الكثير من نظراته وأحب أن أوثق كل ما هو عميق وبليغ.
بخصوص التناقض، سنجد أن بودلير من أول الذين دافعوا عن الحق في التناقض فتجده يقول:


" ثمة حق منسي، قد يهم الجميع أن يعاد إليه الاعتبار، إنه الحق في التناقض"


" أن تعرف يعني أن تتناقض، ثمة درجة من عدم التناقض لا يرقى إليها شيء سوى الكذب"


قيل عن بودلير أنه ملحد وأنه متدين. ألا يعبر هذا عن التناقض.؟ والحقيقة أني وجدت بودلير كثير الدعاء لله، مؤمنا كأشد ما يكون، غير أنه ليس على شاكلة المؤمنين الذين يبدون كالقطيع،فإيمان بودلير أكثر فهما ومعرفة بالعالم، يقول:


"لو فقد الدين في هذا العالم، لوجد في قلب ملحد"


" يظل الدين مقدسا وإلهيا، ولو كان الله غير موجود"


وهو لا ينظر إلى طقوس العبادة نظرة سطحية، لذا سنجده في إحدى غضباته يقول:


" ما الذي ليس صلاة؟ البراز صلاة- طبقا لقول الديمقراطيين حين يتبرزون"

الدين أسمى وأرفع عند بودلير:


" ثمة دين كوني صنعه خميائيو الفكر، دين يتصاعد من الإنسان باعتباره تذكرة إليهة"


بودلير المهووس بالعظمة، لا يريد أن يكون واحدا من القطيع، يتنطع، يتكبر، يتأمل، يعتد بنفسه، لكن له موقف من كل شيء. لا يداهن ولا ينافق، وقد صدق فيه قول تولستوي: " الصدفة تخلق الموقف، والعبقري يستغله".


أما فيما يتعلق بالحب والنساء فبودلير واضح في يومياته كالشمس:
" نحب النساء بقدر ما يزيد اختلافهن عنا، إن حب النساء الذكيات متعة لوطيين، وهكذا فإن الحيوانية تلغي اللواط"
وقد يصل بودلير إلى حد التناقض ليبدو فجا وواقعيا وضد النساء:
" ..مكانان فحسب، فيهما تدفع كي يصبح لك الحق في أن تصرف: المراحيض العمومية والنساء"
" هل تمة فرق بين الرجل الذي يعانق مغفلته في الشارع، وذاك الذي يطعن فريسته في غابات مجهولة؟"
لقد تعرفت على تعريفات كثيرة للحب لكني لم أجد مثل تعريف بودلير المشاكس:
" الحب هو الميل إلى البغاء. بل لا وجود لمتعة مهما كانت سياسية لا يمكن إرجاعها إلى البغاء"
" اللذة الوحيدة والقصوى للحب تكمن في اليقين بإثيان الشر"
" ما الحب؟ الرغبة في مغادرة الذات. الإنسان حيوان عاشق، أن تعشق يعني أن تضحي بنفسك وأن تتعهر، لذلك كان كل حب بغاء"

وعكس ما نتصور، ليس البغاء في نظر بودلير قيمة دنيا، إنه ضرورة وحتمية وليتضح رأيه أسوق المثال التالي من شذراته:
" في عرض مسرحي أو حفلة راقصة، كل يلتذ بالكل. ما الفن؟ إنه بغاء"

ولأن بودلير عاصر زمن الانتشاء بالجمال والاحتفاء به هدفا للفن وقيمة اعتبارية، فإن آراءه في الجمال تبرز في اليوميات كأبهى ما تكون:

"يبدو الشيء جامدا ما لم يشبه قليل من التشويه، لذلك فإن عدم الانتظام، أي اللامتوقع والمفاجيء والمدهش هو جزء من عناصر الجمال الجوهرية وعلامته المميزة"

الجمال عند بودلير يقوم على كل شيء متأجج وحزين، غير محدد، على الغموض والندم والتعاسة:" وأنا لا أزعم أن الفرح لا يجتمع مع الجمال لكني أعتقد أن الفرح حلية من أكثر حلي الجمال سوقية"
أيمكن أن يدعو بودلير إلى الجمال في القبح؟ ألم نقل أنه يعلي من قيمة التناقض؟
يقول: "لا شيء أجمل من الأفكار المبتذلة".

إن شاعرا يصدح بمثل هذه الآراء هو شاعر ثوري بالأساس، لكن ما موقف الشاعر الثائر من الثورة؟
" الثورة تكرس الخرافة عن طريق التضحية"


ورغم ذلك سنجد أن الكثير من شذراته ثورة تهز الظالمين:
" لو طلب شاعر من الدولة الحق في أن يضع بعض البرجوازيين في اسطبله لأثار الاستغراب. لكن لو طلب بورجوازي قليلا من لحم الشعراء مشويا لبدا ذلك أمرا طبيعيا جدا"

جانب آخر من يوميات بودلير أثار إعجاب الجميع، هو جانب التنبؤ. فقد كتب يومية جميلة مليئة بحدوساته التي صدق بعضها وأكيد أنها ما زالت تتحقق لتثير إعجابا عاما عبر العصور:

" ستأمركنا الميكانيكا، وسيضمر التقدم بكل ملامحنا الروحية، إلى الحد الذي تصبح معه أقصى طموحات الطوباويين الدموية والدنيئة والمضادة للطبيعة عاجزة عن مضاهاة نتائجه الفادحة"

" ثمة في الإنسان أشياء تزهر وتزداد قوة فيما أشياء أخرى تضمر وتتقلص وبفضل تقدم هذه الأزمنة لن يبقى في باطنك سوى الأمعاء"

ويذهب بودلير بعيدا في التنبيء بمآل العائلة بعد بروز المجتمع الفرداني، فالشاب الذي كان يهجر عائلته في سن الثانة عشر لن نستغرب ان هجر بيته في سن الثانية عشر.

عميق جدا هو بودلير في فهم العالم والإنسان، وينبهنا إلى البداهات التي تحاصرنا دون أن نكنهها:

" نحن مسحوقون في كل دقيقة بفكرة الزمن والاحساس به، لا توجد إلا وسيلتان للنجاة من هذا الكابوس لنسيانه: المتعة والعمل. المتعة تستهلكما. العمل يقوينا. لنختر. كلما استعملنا إحدى هاتين الوسيلتين، ازداد قرفنا من الأخرى."
في يومياته كثيرا ما ردد بودلير تمجيده للشاعر والراهب والمحارب:
" لا يوجد إلا ثلاثة أشخاص جديرين بالاحترام: الراهب والمحارب والشاعر. أن نعرف،وان نقتل، وان نبدع"


وبالمقابل هناك سخط واحتقار لا يواريه بودلير - خاصة في يومياته-
" موظف نكرة، وزير، مدير مسرح أو جريدة، كل هؤلاء قد يكونون أحيانا جديرين بالاحترام، لكنهم لن يكونوا في يوم رائعين، غنهم أشخاص بلا شخصية، كائنات بلا خصوصية، مولودون للوظيفة، أي للخدمة العامة."
إنها أفكار من يبحث عن المجد، لكنه لا يتوان عن الاقرار بأن المجد:
" ليس سوى حصيلة توافق عقل مع غباوة امة"
يبقى الكتاب وثيقة مهمة لأنه لا يؤرخ لحياة بودلير الذهنية فحسب، بل لحياة عصر بودلير، وقد حفل الكتاب بالكثير من الأسماء التي أبان صاحب اليوميات عن حماسه لها أو أبدى بصدق جارح عن احتقاره لها. يقول عن واحدة من الكاتبات اللواتي قوبلن بالحفاوة والترحاب من طرف المجتمع الأدبي:
"..أن يكون بعض الرجال قد أغرموا بهذا المرحاض: دليل واضح على انحطاط رجال هذا القرن"
وفي مواجهة سان مارك جيراردن يتصيد له هفوة ليشهر به:
" سان مارك جيراردن أطلق كلمة لن تنسى: لنكن تافهين"

الأديب يجب أن يكون لسان حال عصره، هذا القول يجد تجسيدا له عند بودلير الذي كانت يومياته يوميات عصر بأكمله:
" كل شيء في هذا العالم ينضح بالجريمة: الجريدة والجدار ووجه الإنسان"

نقلت إليكم هنا بعض الشذرات من يوميات قرأتها فعرفت أكثر من هو شارل بودلير، فهو يظهر أكثر في اليوميات ، في حين يصعب الامساك به في ديوانه الشهير أزهار الشر، قد يعود الأمر إلى الترجمة، فهي الكبسولة السحرية التي تنقلنا من زمن إلى آخر ومن لغة إلى أخرى، وهنا أود أن أشيد بترجمة آدم فتحي لليوميات، فقد نجح في توصيل صوت بودلير إلى اللغة العربية.

اليوميات- شارل بودلير- منشورات الجمل- ترجمة آدم 1999

هناك تعليقان (2):

rania يقول...

بودلير رائع بفلسفته للحياة
لكن لاروع انك تلقي الضوء على هذا الكاتب وتقدمه لنا بشكل موضوع سلس ومبسط ...


اشكرا يا قنديل المحبه

موده

نبراس العتمة يقول...

الرائعة رانية
شرفت مدونة الفوانيس، يسعدني أن أجد توقيعك هنا.
بودلير أيضا رائع، ولو كان بيننا لتجول بين لوحات معارضك منبهرا.

مودتي الدافقة