
"مْبيريك"*

صدى أصواتهم وحده يقرقع في الفضاء صباحا. أجسادهم النحيفة لا تكاد تبين. يمتطون صهوات دراجاتهم ويتوغلون في أعماق الشمس. ترى ظلالهم الباهتة، وخلفهم بيوتاتهم الطينية. تجاوزوا آخر نخلة وانقطعوا إلى الفيافي القاحلة. يحلمون كل يوم أن يتركوا مقاعد الدراسة إلى دكاكين زريعة عباد الشمس في مراكش والبيضاء والرباط وباقي المدن الكبرى في المملكة. منوا أنفسهم كثيرا بقطع الشكلاطة والمثلجات المحلية والجيوب الممتلئة دراهما.
كان يحلم وهو على فراش النوم بجبال من )الزريعة( على شاكلة جبال “باني” التي تحيط مدينته المنسية. يحلم بخط سكة حديدية يربط بين مدينته (طاطا) و (البيضاء) يبعث عن طريقه (الزريعة) إلى والده وأعمامه، هناك حيث يضعونها على صفيح ساخن. يقرملونها ويبيعونها لآلاف الجياع ممن يشهدون ببراعة الكلاي* الطاطاوي.
حلم أن (زريعة العباد) أصبحت الأكلة الأولى لجميع المغاربة بعد الكسكس. حلم أن الطلب ازداد على اليد العاملة الطاطاوية المختصة في طهي (العباد).لم يكمل (مبيريك) حلمه. أدركه الصباح، وأدرك أن أمه تقلب الدنيا صياحا مؤنبة إياه على تماديه في النوم. ناولته محفظته المهترئة وبضع تمرات عجاف مما جادت به نخلة الدار العجوز.
***
وهو يشق طريقه بدراجته بين أزقة (الدوار) لم يبارحه الحلم بزريعة العباد. كان يحلم أنه أضحى أكبر بائع )زريعة( في الدوار*.. تجاوز الجدران الطينية ليطل على أشجار نخل باسقات، وفدادين على جنبات الطريق. حينها امتدت الطريق، فامتد حلمه ليصبح أشهر مروج زريعة في المغرب، ينادونه "الحاج مبيريك". لم تثبط عزيمته حرارة الفرن اللافحة وهو ينتج أطنانا من الزريعة المقلية المقرملة اللذيذة. انتبه إلى أنها أشعة الشمس الملتهبة، وليست حرارة الفرن.
وجد نفسه يقطع الأميال القاحلة المتبقية إلى مدرسته. استعان بعصا الحلم السحرية. أصبح مروجا عالميا. له شركات كبيرة وسيارات آخر موديل، يقودها بسرعة جنونية.
استلذ الحلم فضغط دواسة الدراجة الهوائية بأقصى سرعة ليجد نفسه رأسا على عقب أسفل المنحدر. تألم وبكى. قام بصعوبة وسحب وراءه دراجته وخيط دموعه يختلط بوجهه المترب. الصغير لم يكن ينزف دما. منكسرا كان ينزف روحا.
***
- الباب الأول: باب المدرسة
تسارعوا وتدافعوا وهم يتخطون عتبة باب المدرسة. وفي وقت وجيز "وكما الماء ينسحب إلى بالوعة، امتصهم باب المدرسة إلى الداخل" هكذا عبر أستاذ اللغة العربية المهووس بالتشبيهات الغريبة.
(مبيريك) وحده بقي خارجا وهو يلهث منهدا بعد أن وصل متأخرا. طاف بسور المدرسة من كل جانب. تحين الفرصة المناسبة. تسلق السور. وجد نفسه في الداخل.


-الباب الثاني : باب القسم
أطل وجه (مبيريك) الناعس على أستاذ مادة اللغة العربية. توقف هذا الأخير عن إلقاء الدرس وخاطبه من بعيد ساخرا:
- صباح الخير معلمي الصغير!! هل تنتظر مني أن أستقبلك بالورود والزغاريد.. هيا اذهب..
صفع الأستاذ الباب في وجهه، فلم يسمع بقية العبارة، وتناهى إلى مسامعه ضحكات زملائه المكتومة..
(اذهب..) لا شك أن الأستاذ قال له: اذهب حيث تبيع زريعة العباد. هكذا اعتقد "مبيريك" أوهكذا خيل إليه.
***
-الباب الثالث: باب الإدارة.
يدخل "مبيريك" مكتب الحارس العام متشحا بالغبار.
الحارس العام مكوم على كرسيه. يدير بين أصابعه قلما أنيقا.
يبادر "مبيريك" بالتحية.
الحارس العام يسأله دون أن يرفع رأسه:
- ماذا تريد يا بني؟
- ورقة السماح بالدخول إلى الفصل.
- لماذا؟
- تأخرت
- لماذا؟
- سقطت من على دراجتي في الطريق. تألمت كثيرا أستاذ( لم يجرؤ أن يقول أنه تألم أكثر بسبب انكسار حلمه.)
- أي طريق تقصد؟
- طريق "اكرزاكن"
- أين تسكن؟
- دوار "تزولت"
- ماذا تريد الآن؟
- ورقة السماح بالدخول إلى الفصل.
- تأخرت نصف ساعة، هذا كثير لن أعطيك الورقة، فأنا لا أعرف أين قضيت هذا الوقت كله
- أستاذ.. أرجوك..
- يجب أن تحضر ولي أمرك.
- أبي في الدار البيضاء يـ.. يــ.. يـــ..
- ماذا يفعل في البيضاء؟
- يعمل في الزريعة
- ومن يتولى أمرك هنا في الدوار
- عمي.
- اذهب إلى أن تحضر عمك، هذه ليست المرة الأولى ولا الثانية التي تتأخر فيها.. إنها المرة الرابعة أو الخامسة.
أحس "مبيريك" أن الأبواب كلها توصد في وجهه. تثاقل وهو يجر أذيال الخيبة، ومحفظته المهترئة تكشف عن كراريس تكدست بعشوائية. لكم كان يمني النفس بإحدى المحافظ التي شاهدهم في التلفاز يوزعونها. قيل له أن العملية ستشمل توزيع مليون محفظة جديدة في القرية قبل المدينة، وأن "مقدم" القرية سيحضرها بنفسه إلى البيت.أمله الأخير أن ينتظر عودة والده عيد الأضحى المقبل. فالأب إذا وعد وفى.
تذكر أمه فتذكر أنها لن تغفر له تقصيره وتهاونه في الدراسة، لطالما رأى شيئا شبيها بالدمع يتلألأ في عينيها وهي تضرع إلى الله أن تراه متعلما.
ينظر وجه أمه الباكي.. ويهم بالرجوع إليها.
ينظر وجه الأستاذ المتجهم.. فيهم بالهروب
ينظر وجه الحارس العام المظلم..يتردد.
***
من خلف زجاج نافذة الفصل "مبيريك" يمعن النظر في إصرار إلى السبورة، ويسجل على كراسه كل ما يكتب. داهمته غفوة قصيرة، فرأي فيما يرى النائم شابا أسودا، (حلم أنه يشبهه حين كان كبيرا). شعره قصير. نحيل أنيق بربطة عنق ويبيع "الزريعة". المكان سوبر ماركت يزخر بأصناف لا حصر لها من المقرملات والمقرمشات. هذا الوجه أين رآه؟..أين صادفه؟ شخصية من أعيان المدينة؟ أحد كبار تجار الزريعة؟ أحد أبناء الجالية المقيمة خارج المغرب..آه..إنه شبيه بذلك الرجل الأمريكي الذي يراه في نشرة الأخبار يتكلم كثيرا من أمام البيت الأبيض. عمه كان يؤكد ويقسم بالأيمان الغليظة أن الرجل الأمريكي سبق وأن عمل معه في بيع "الزريعة" قبل أن يحرك*
***
استيقظ من غفوته على أصوات التلاميذ، يملأون ساحة المدرسة، أحدهم اقترب منه أكثر وهو يضحك:
- إن تنجح يا "مبيريك" تعال دق مسمارا في جبهتي.
لملم "مبيريك" دفاتره بعناية.. وحدها أوراق الدفاتر ستنفعه في تلفيف "الزريعة" يوما ما. وهو ينصرف لم ينس أن يقول للذي يضحك منه:
- لا تنس الدفاتر التي وعدتني بها آخر السنة، سيحتاجها أبي لتلفيف طلبيات "الزريعة".

صدى أصواتهم وحده يقرقع في الفضاء صباحا. أجسادهم النحيفة لا تكاد تبين. يمتطون صهوات دراجاتهم ويتوغلون في أعماق الشمس. ترى ظلالهم الباهتة، وخلفهم بيوتاتهم الطينية. تجاوزوا آخر نخلة وانقطعوا إلى الفيافي القاحلة. يحلمون كل يوم أن يتركوا مقاعد الدراسة إلى دكاكين زريعة عباد الشمس في مراكش والبيضاء والرباط وباقي المدن الكبرى في المملكة. منوا أنفسهم كثيرا بقطع الشكلاطة والمثلجات المحلية والجيوب الممتلئة دراهما.
كان يحلم وهو على فراش النوم بجبال من )الزريعة( على شاكلة جبال “باني” التي تحيط مدينته المنسية. يحلم بخط سكة حديدية يربط بين مدينته (طاطا) و (البيضاء) يبعث عن طريقه (الزريعة) إلى والده وأعمامه، هناك حيث يضعونها على صفيح ساخن. يقرملونها ويبيعونها لآلاف الجياع ممن يشهدون ببراعة الكلاي* الطاطاوي.
حلم أن (زريعة العباد) أصبحت الأكلة الأولى لجميع المغاربة بعد الكسكس. حلم أن الطلب ازداد على اليد العاملة الطاطاوية المختصة في طهي (العباد).لم يكمل (مبيريك) حلمه. أدركه الصباح، وأدرك أن أمه تقلب الدنيا صياحا مؤنبة إياه على تماديه في النوم. ناولته محفظته المهترئة وبضع تمرات عجاف مما جادت به نخلة الدار العجوز.
***

وهو يشق طريقه بدراجته بين أزقة (الدوار) لم يبارحه الحلم بزريعة العباد. كان يحلم أنه أضحى أكبر بائع )زريعة( في الدوار*.. تجاوز الجدران الطينية ليطل على أشجار نخل باسقات، وفدادين على جنبات الطريق. حينها امتدت الطريق، فامتد حلمه ليصبح أشهر مروج زريعة في المغرب، ينادونه "الحاج مبيريك". لم تثبط عزيمته حرارة الفرن اللافحة وهو ينتج أطنانا من الزريعة المقلية المقرملة اللذيذة. انتبه إلى أنها أشعة الشمس الملتهبة، وليست حرارة الفرن.

وجد نفسه يقطع الأميال القاحلة المتبقية إلى مدرسته. استعان بعصا الحلم السحرية. أصبح مروجا عالميا. له شركات كبيرة وسيارات آخر موديل، يقودها بسرعة جنونية.

***
- الباب الأول: باب المدرسة
تسارعوا وتدافعوا وهم يتخطون عتبة باب المدرسة. وفي وقت وجيز "وكما الماء ينسحب إلى بالوعة، امتصهم باب المدرسة إلى الداخل" هكذا عبر أستاذ اللغة العربية المهووس بالتشبيهات الغريبة.
(مبيريك) وحده بقي خارجا وهو يلهث منهدا بعد أن وصل متأخرا. طاف بسور المدرسة من كل جانب. تحين الفرصة المناسبة. تسلق السور. وجد نفسه في الداخل.


-الباب الثاني : باب القسم
أطل وجه (مبيريك) الناعس على أستاذ مادة اللغة العربية. توقف هذا الأخير عن إلقاء الدرس وخاطبه من بعيد ساخرا:
- صباح الخير معلمي الصغير!! هل تنتظر مني أن أستقبلك بالورود والزغاريد.. هيا اذهب..
صفع الأستاذ الباب في وجهه، فلم يسمع بقية العبارة، وتناهى إلى مسامعه ضحكات زملائه المكتومة..
(اذهب..) لا شك أن الأستاذ قال له: اذهب حيث تبيع زريعة العباد. هكذا اعتقد "مبيريك" أوهكذا خيل إليه.
***
-الباب الثالث: باب الإدارة.
يدخل "مبيريك" مكتب الحارس العام متشحا بالغبار.
الحارس العام مكوم على كرسيه. يدير بين أصابعه قلما أنيقا.
يبادر "مبيريك" بالتحية.
الحارس العام يسأله دون أن يرفع رأسه:
- ماذا تريد يا بني؟
- ورقة السماح بالدخول إلى الفصل.
- لماذا؟
- تأخرت
- لماذا؟
- سقطت من على دراجتي في الطريق. تألمت كثيرا أستاذ( لم يجرؤ أن يقول أنه تألم أكثر بسبب انكسار حلمه.)
- أي طريق تقصد؟
- طريق "اكرزاكن"
- أين تسكن؟
- دوار "تزولت"
- ماذا تريد الآن؟
- ورقة السماح بالدخول إلى الفصل.
- تأخرت نصف ساعة، هذا كثير لن أعطيك الورقة، فأنا لا أعرف أين قضيت هذا الوقت كله
- أستاذ.. أرجوك..
- يجب أن تحضر ولي أمرك.
- أبي في الدار البيضاء يـ.. يــ.. يـــ..

- ماذا يفعل في البيضاء؟
- يعمل في الزريعة
- ومن يتولى أمرك هنا في الدوار
- عمي.
- اذهب إلى أن تحضر عمك، هذه ليست المرة الأولى ولا الثانية التي تتأخر فيها.. إنها المرة الرابعة أو الخامسة.
أحس "مبيريك" أن الأبواب كلها توصد في وجهه. تثاقل وهو يجر أذيال الخيبة، ومحفظته المهترئة تكشف عن كراريس تكدست بعشوائية. لكم كان يمني النفس بإحدى المحافظ التي شاهدهم في التلفاز يوزعونها. قيل له أن العملية ستشمل توزيع مليون محفظة جديدة في القرية قبل المدينة، وأن "مقدم" القرية سيحضرها بنفسه إلى البيت.أمله الأخير أن ينتظر عودة والده عيد الأضحى المقبل. فالأب إذا وعد وفى.
تذكر أمه فتذكر أنها لن تغفر له تقصيره وتهاونه في الدراسة، لطالما رأى شيئا شبيها بالدمع يتلألأ في عينيها وهي تضرع إلى الله أن تراه متعلما.
ينظر وجه أمه الباكي.. ويهم بالرجوع إليها.
ينظر وجه الأستاذ المتجهم.. فيهم بالهروب
ينظر وجه الحارس العام المظلم..يتردد.
***
من خلف زجاج نافذة الفصل "مبيريك" يمعن النظر في إصرار إلى السبورة، ويسجل على كراسه كل ما يكتب. داهمته غفوة قصيرة، فرأي فيما يرى النائم شابا أسودا، (حلم أنه يشبهه حين كان كبيرا). شعره قصير. نحيل أنيق بربطة عنق ويبيع "الزريعة". المكان سوبر ماركت يزخر بأصناف لا حصر لها من المقرملات والمقرمشات. هذا الوجه أين رآه؟..أين صادفه؟ شخصية من أعيان المدينة؟ أحد كبار تجار الزريعة؟ أحد أبناء الجالية المقيمة خارج المغرب..آه..إنه شبيه بذلك الرجل الأمريكي الذي يراه في نشرة الأخبار يتكلم كثيرا من أمام البيت الأبيض. عمه كان يؤكد ويقسم بالأيمان الغليظة أن الرجل الأمريكي سبق وأن عمل معه في بيع "الزريعة" قبل أن يحرك*
***
استيقظ من غفوته على أصوات التلاميذ، يملأون ساحة المدرسة، أحدهم اقترب منه أكثر وهو يضحك:
- إن تنجح يا "مبيريك" تعال دق مسمارا في جبهتي.
لملم "مبيريك" دفاتره بعناية.. وحدها أوراق الدفاتر ستنفعه في تلفيف "الزريعة" يوما ما. وهو ينصرف لم ينس أن يقول للذي يضحك منه:
- لا تنس الدفاتر التي وعدتني بها آخر السنة، سيحتاجها أبي لتلفيف طلبيات "الزريعة".
• القصة مستوحاة من فيلم "مبيريك" وهو فيلم تربوي قصير.فكرة أحمد هربولي/مونطاج أحمد خشاف/سيناريو عبد الهادي روضي/ بطولة نور الدين أولحسن/ إخراج شكيب أريج.
لمشاهدة الفيلم في نسخته الأولى بالعامية المغربية بطريقة مباشرة من هنا:
• الكلاي: الذي يعمل على قلي الحبوب على صفيح ساخن/ الدوار: القرية/ الحريك مصطلح مغربي يحيل على عملية الهجرة السرية .
شكيب أريج/المغرب
نشر بجريدة البيان الكويتية- دجنبر 2009