الثلاثاء، 22 يونيو 2010

الوجه والهراوة/ قصة لشكيب أريج


الوجه والهراوة / قصة: شكيب أريج
مهداة إلى المصورين جنود الخفاء

الساعة: 09:00 صباحا
..الأحذية في الوجوه، الصراخ في العيون، الأكتاف في الأذرع، الهراوات، عرق ودم، صوت هادر وجراح..

خلف الحدث على بعد خطوات سحق عقب السيجارة ببرودة، ورفع نظارته السوداء وأعطى إشارة خفية بالكف عن الهراوة.

..بقعة حذاء على وجه ينزف على الإسفلت، عيون باكية وصراخ مبحوح، كتف متهدلة من كثرة الضرب، ذراع ترتعد وصوت متألم من شدة الحكرة ومن شدة الجرح.

أمام الحدث على بعد خطوات سحق عقب السيجارة ببرودة وهو يصور مشهد التظاهرة المنفضة. طاردت عدسته المصورة طلبة غاضبين، وتحولت إلى متناضلين يدهسون جسد فتاة وهم يفرون.. انتقلت إلى مصدر الإرهاب حيث انتظم صف من رجال التدخل السريع مشكلا حاجزا بين الطلبة المحتجين والشارع المؤدي إلى ساحة المهرجانات والسهرات الخالدة.

الساعة: 10:00 صباحا
بينما كانت جيوب الطلبة المحتجين تلتحم، كانت العدسة تنقلب وبعنف اتجاه سيارة رياضية صغيرة تتقد فيها النيران وشباب حانق يقلبونها بعنق وقوة إلى الأمام.. ومن جديد الفوضى تعم.

سيل من الحجارة، سيل من الهراوات، ذراع تجذب قدما، صوت يزعق بسباب ناب، بكاء عضلة تتمزق.

خلف الحدث، الرجل صاحب النظارات السوداء يسحق سيجارة جديدة ويعيد تخفيف عقدة ربطة عنقه، وهو يصرخ: - اقبضوا عليهم أحياء.

ركلات ولكمات، كدمات وصرخات، هراوات تتهاوى. قامات تتهاوى.

أمام الحدث يدخن بهدوء وهو يحمل الكاميرا على كتفه، ويخطو جانبا محتميا بجدار.. العدسة تلتقط أحذية كثيرة وكبيرة، تخبط الأرض، يعلو الخبط أكثر فأكثر.. العدسة تلتقط صورة الهراوة وهي تستعد للضرب.
- توقف..توقف.. نحن صحافة، وصحافة دولية
تتردد الهراوة، يزيد ارتباك (المأمور) بالضرب حين يسمع.
- انتبه لما تفعله أنت الآن على الهواء مباشرة.
يتراجع وقد انطلت عليه الخدعة ويكمل مطاردة الطلبة المحتجين.

الساعة: 11:00 صباحا
سيارة مصفحة تمطرها الأحجار من الضفتين اليمنى واليسرى للشارع. سيارة أخرى تتبعها تنعطف يمينا وتنفتح عن رجال مثل النمل يشدخون الرؤوس، ويسحبون المحتجين من رؤوسهم ومن تلابيبهم.
سيارة مصفحة على حين غرة تنعطف يسارا مطاردة الطلبة، تتوغل عبر زقاق جانبي، تنطلق منها الكثل اللحمية المأمورة المدمرة. الكثل اللحمية تعدو، تعدو الطالبات، يعدو الطلبة، الطريق تعدو، السماء تعدو، الكاميرا تعدو.. في آخر الزقاق يظهر شاب بنظارات مقعرة وهو يتأبط كتبا، الهراوة تكاد تسلم على رأسه.. تتبعثر الكتب، ينبطح متضرعا، يسيل الماء من بين فخذيه، يسمع صوت العبد (المأمور) يصرخ في وجهه:
- لا تظهر أمامي..اغبر يا ولد...........
العبد المأمور يحول وجهه اتجاه الكاميرا.. يحتل وجهه الصورة، تظهر عروق قسماته، يبدو متأهبا لأن يهوي على زجاج الكاميرا، وفي اللحظة الأخيرة يُسْمَعُ صوت ارتطام. وينغلق باب العمارة التي احتمى بها المصور.

الساعة: 11:45 صباحا
من الأعلى تبدو الرؤية أكثر وضوحا.. أمطار من الحجارة، عجلات محترقة وأدخنة تتعالى. حركة السير متوقفة. شاب يمسك عجوزا محاولا أن يجتاز بها الطريق.

في جانب من الصورة القاتمة يقف الرجل صاحب النظارات السوداء والبذلة الأنيقة وربطة العنق، السيجارة لا تفارق أصابعه، يحمل جهاز اللاسلكي متحدثا، وجهه يقترب، شفتيه تقتربان ونراه يقول:
- الوضع يا سيدي تحت السيطرة.

خلف سور الحرم الجامعي فرقة الإمداد تزود الرماة بالحجارة..الذين اعتلوا نوافذ البناية الجامعية يرمون ويوجهون الأوامر للرماة في الأسفل حين يبدو الهدف قريبا:
- واحد.. اثنان.. ثلاثة..الآن
تتراجع الكثل البشرية تحت وابل أمطار الرماة، ويعود أحد الطلبة ومعه خوذة وهو يقول:
- في المرة القادمة سأنتزع رأسه.

الساعة: 12:00 منتصف النهار
السيارات الخاصة تحتشد بداية ونهاية الطريق المقطوعة، المدارس تنفتح عن جحيم من التلاميذ.
الرجل صاحب النظارات السوداء يلتفت وراءه مباشرة فيفاجأ بطفلة صغيرة ترتدي وزرة وردية وتحزم حقيبتها. تقف متفرجة، يهم بزجرها، فيرى أطفالا آخرين، وآخرين وآخرين..
يوجه الأمر بنظرات صارمة إلى رجاله.
يتردد الضابط الذي تحت إمرته في توجيه الأوامر.. لكنه يفعل.. تتحرك الكثل اللحمية.
تصرخ الطفلة صرخة تجرح الصمت وهي تنسحق تحت أحذية الكثل اللحمية، ويُلْطَخُ الحائط ببقعة دم لطفل كان يهم بالهرب، وتترك المعلمة حذاءها الأول ثم الثاني قبل أن تحتمي بباب المدرسة.

الساعة: 13:00 زوالا
السيارة المصفحة تتراجع بعد عملية هجوم. بابها الخلفي ينغلق قبل أن تنجح الحجارة في إمطاره.. الكثل اللحمية تحتمي بواقيات صلبة.
آخر الكثل اللحمية يتعثر، تسقط خوذته وواقيته، يسقط مفترشا الأرض بجثته العملاقة والسيارة تفر منسحبة. يشبعونه ضربا ورجما، يصرخ أحدهم:- دعوه لي. ثم يهوي عليه بصخرة ضخمة.
تعود السيارة تناصرها سيارات أخرى.. تلتقط الكثلة اللحمية المضرجة بالدماء. تعلو الشعارات حماسية منتصرة.

الرجل بنظارته السوداء وبذلته الأنيقة بعد أن كان يتموقع في الخلف، هو الآن مع رجاله وسط الدائرة، حتى أن سيارة الإسعاف توقفت خارج الحصار المضروب بأمر من الطلبة المحتجين.
- افتحوا الطريق هناك جرحى في حالات خطيرة.
- وهؤلاء أمامك، أليسوا جرحى؟؟ وهذا أليس دما؟؟
السيارة تحمل أجسادا تنزف وأخرى مغمى عليها، تواصل اختراقها للحشود. تحمل الكثلة اللحمية المضرجة بالدماء وتقدم الإسعافات الضرورية للكثل اللحمية التي أصابتها الأحجار الطائشة..
- تبا..
هكذا علق المصور المعلق فوق سطح العمارة على المشهد وهو يحرك مصورته لتلتقط وجه شاب في مقتبل العمر كان يجلس بجانبه. لم يتمالك الشاب نفسه وسأله:
- ما بالك؟
- هذه المصورة عاجزة عن التقاط ما يدور داخل سيارة الإسعاف، هناك حيث يقبع الجرحى ومعهم أصحاب الهراوات.
- نعم، صدقت، وهي أيضا عاجزة عن التقاط ما يدور داخل الحرم الجامعي. هناك تركتهم يتفاوضون مع عمادة الجامعة، ويهددون باقتحام الإدارة وإتلاف كل شيء، لقد منحوا للعميد الفرصة الأخيرة لإجراء اتصالاته العليا. وفي مطعم الحي الجامعي رأيتهم يتمترسون بقنينات الغاز تحسبا لأي وضع محتمل.

الساعة: 14:00 بعد الزوال
الدائرة تزداد إحكاما رويدا رويدا، وتستحكم أكثر حين تتوقف حافلات النقل الجامعي محملة بمئات الطلبة الذين فوجئوا بالوضع المكهرب، وراعتهم الفوضى التي عمت المكان، ولم يجدوا بدا من الانخراط في الشعارات وإمطار القوات اللاأمنية بالحجارة، في مقابل مواجهة القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، وكلما فروا إلى الوراء اتسعت الدائرة وكبرت.
أمسك بعض الطلبة بدراجات نارية وأرغموا أصحابها على إفراغها من البنزين، لتبدأ فصول معركة أخرى بزجاجات المولوتوف الحارقة.

الساعة: 15:00 بعد الزوال
الرجل بنظارته السوداء يدخن بعصبية، ويتحدث عبر هاتفه المحمول. يبدو أن الإمدادات تأخرت عنه..العدسة تركز على وجهه وهو ينهي الاتصال بنرفزة واضحة ويرفع عيناه إلى الأعلى..
إنه وجها لوجه مع الكاميرا.. يرمي عقب السيجارة ويسحقه وهو ما زال ينظر إلى الهدف..
يرمي المصور بدوره سيجارته، يمحقها على الأرض.
صاحب النظارات يرفع جهاز اللاسلكي ويفعل أهم ما يمكن أن يفعله رجل سلطة في موقفه.
المصور يتوقف ويفعل أحسن شيء يمكن أن يفعله مصور يعرف أصول مهنته. يوقف التصوير. يخفي ما صوره. ويشعل سيجارة جديدة. وينتظر بنفاذ صبر أن تقتحم الكثل اللحمية السطح.

شكيب أريج/طاطا
05/06/2010


هناك تعليقان (2):

admin يقول...

وصف لنضال الطلبة المعطلون وما يتعرضون له من قمع بطريقة جميلة..

استمتعت كثيرا.. بارك الله فيك

نبراس العتمة يقول...

شكرا علة زيارتك لتدوينتي
كررها ولا تجعلها بيضة الديك
مودتي