الثلاثاء، 13 أبريل 2010

سيرة الكائن- الكعجول



ســــيرة الـكـــــائــــن
"الكعجـــول"

على سبيل التقديم:


عندما خلقه الله قال له: " اذهب فأنت غابة بأكملها وبقية الناس أعشاب بشرية"
هو الجبل وبقية الناس أحجار متناثرة، هو النسر وبقية الناس ذباب، هو التبر وبقية الناس تراب، هو العقل وبقية الناس أفكار شاردة..
عندما خلقه الله قال له: " اذهب فأنت الشمس وبقية الناس شموع باهتة، اذهب فأنت القلب وبقية الناس مشاعر تافهة.
هو "الكَعْجُولُ بنُ سَنْكُوحُ الْبِرِحْتِلِّي". الكائن البشري المحض، الغير قابل للتحديد، المتواجد بكثرة، المختلف إلى حدود الانقراض. غامض كما الماس، حر كما البحر، مثير كفقمة صغيرة التبست ألوانها، معقد كنظرية هندسية، عارم كثورة عظيمة..
أعتذر إن كنت تجاوزت حدود المدح والتقريض..العنوان أعلاه (سيرة) وأنا لا أميز بين فن السيرة والتأبين.. سأحاول أن ألزم الحياد ما قدرت فنبهوني من حين إلى آخر.

***
كيف يعانق الديك الدجاجة؟

يسكن مغارة موغلة في التوحش. المغارة توجد في شوارع مدينة "الْعْوِينَة". رقم المغارة لمن أراد زيارته 176 ، رغم اهتمامه بالسياسة والفنون إلا أنه أتبث فشله الذريع فيها- عن جدارة واستحقاق-.
لا يزال يذكر الثورة الأولى التي قام بها في "الْبُلِّيعَة" دفاعا عن الأيتام والأطفال. لكن نجاحه الحقيقي كان باهرا في مشروع الدجاج. هذه المخلوقات التي رباها وتربى معها، ومن خلالها تعرف على "فَلَّسْتِ الحِنَّة". هذه الشخصية التي يكتنفها الغموض تماما، فلا نكاد نعرف عنها شيئا إلا أن الكعجول حكى عنها كثيرا. وفي آخر حفل نظمه -بدون مناسبة- تحدث عنها بإسهاب قائلا:
- " لم تكن علاقتي بالدجاج لتتطور وتتخذ أبعادا (سوسيوسيكوبوليتيكية) لولا تعرفي على السيد "فلست الحنة" من خلال كتابه العظيم (كيف يعانق الديك الدجاجة؟) هذا الكتاب الذي تطرق إلى فترة غابرة من الوجود، قبل حتى أن يُخلق سيدنا آدم، وتطرق إلى سؤال لطالما حيرني: من الأسبق البيضة أم الدجاجة؟ ناقش "فلست الحنة" الأمر بموضوعية بحثة، وانطلق من فرضية غريبة (ولا شيء أغرب من وجودنا) ماذا قال "فلست الحنة"؟"
وصمت الكعجول حوالي نصف دقيقة كعادته.
وأستميحكم عذرا في أن أشرب قبل أن أكمل، فتلك عادتي أنا أيضا..
ماذا كنا نقول؟.. قال الكعجول:
" قال "فلست الحنة" إن البيضة كانت في الأصل ذات شكل مثلثي، يعتقد أنها كانت تقبع فوق أعلى قمة من العالم، وتبدو مثل قبة، شكلها المثلثي لم يأت صدفة ولم يتحول صدفة، فهناك تحولات جيولوجية حثيتة وحسابات زمنية دقيقة قادت "فلست الحنة" إلى الجزم بأن البيضة المثلثية الشكل تعرضت أولا لزحزحة أقدم وأشبه بزحزحة القارات، ثم تدحرجت ببطء من الأعلى إلى الأسفل، وأثناء عملية الدحرجة التي اصطلح عليها "فلست الحنة" عملية "الدَمْلَكَة" تغير الشكل المثلثي واتخذت البيضة شكلها المثلثي الذي يتناسب مع المرحلة.."
عملية "الدَمْلَكَة" هذه -التي فلق الكعجول بها رؤوسنا- المستقاة من مصدره الغريب "فلست الحنة" لم يقتصر على استثمارها في أصل النوع بل وجدناه يفسر بها الكثير من أمور الحياة والعالم، ويزاحم بها أعتى نظريات التطور، فهو يعتقد أن رؤوسنا المستديرة كانت في الأصل مثلثة، ويجادل في مسألة كروية الأرض مؤكدا أن الأصل هو الشكل المثلثي!

الديك الفصيح في البيضة يصيح
اللغة نفسها لم تسلم من عملية "الدملكة" في اعتقاد الكعجول، وقد كانت محورا لاشتغالاته وأبحاثه في مغارته بـ"العوينة" وتتلخص نظريته التي قدمها مؤخرا في "المحضرى" (والمحضرى حسب التعبير الكعجولي هي الجامعة) في محاضرته التي يزاحم بها دوركاييم على عرش الدراسات اللغوية. يتناول الكعجول في محاضرته عدة جوانب في اللغة:
- أولا: حذف الضمائر بحيث يمكن التعبير باللغة دون التباسات ودون تعقيدات، وحذف الضمائر يعني تصفية اللغة من الكلمات التي تساعد على الاخفاء والنفاق، فكاتب لا يستعمل الضمائر ..يعني كاتب لا ينافق، كاتب صريح لا يضمر. يَذْكُرُ الكعجول أن الضمائر انتشرت كالفطر في الآونة الأخيرة لاخفاء الكلمات المحرجة أو الكلمات البذيئة أو للتستر على أسماء معينة أو للتحرش أو لِلَّفِّ والدوران. ومخافة أن تتحول اللغة المستقبلية إلى ضمائر يدق الكعجول ناقوس الخطر داعيا إلى لغة لا تلبس طاقية الاخفاء، لغة مباشرة، لا تخجل ولا توارب، لغة صريحة خالية من التعقيد، ولم ينس الكعجول أن ينبه إلى أن مبدأ حذف الضمائر في عرف المنافقين قد يدعى وقاحة وسفالة.

- ثانيا: المبدأ الثاني هو تحرير اللغة، فالكلمات ألفاظ محايدة، هكذا فكل الألفاظ يجب أن تقال، وحدها المعاني التي يختزنها العقل البشري قابلة للتصنيف إلى قبيحة وجميلة، وفي نظره أن الابقاء على حروف الألفاظ في وعينا الشقي مع وسمها بالعيب هو إساءة وتهمة جزافية لهذه الحروف البريئة.

- ثالثا: التركيز على البعد الاجتماعي السيكلوجي للغة، ويهدف هذا الجانب إلى إزالة الحواجز بين أفراد العائلة الواحدة، وإلى توحيد لغة البيت ولغة الشارع، وفي انتظار أن يفصل العلم تكنلوجيا بين اللغتين، فتلبس (فكا متكلما) مثلا حين تخرج من البيت، وتلبس طقما آخر وأنت تتحدث إلى رئيس العمل، وحالما تدخل البيت وتجلس مع العائلة المحترمة الموقرة تكون قد غسلت فمك بمحلول، في انتظار ذلك على الإنسان المعاصر أن يتفادى الازدواجية في اللغة قدر المستطاع، خاصة عند المتعلم الذي تصعقه المفارقة ويتلون وجهه مرات عديدة وهو يشاهد فلم "كزا نكرا" مع أفراد العائلة.
و من جهة أخرى لم يغفل الكعجول خطورة الانفصام الشخصي الذي يؤدي بالشخص الواحد إلى استعمال أكثر من مستوى في اللغة للحديث إلى نفسه.
هذه مناقشة علمية لاموضوعية لها علاقة وطيدة بسيرة الكائن، لكني أجدها قد نأت بي بعيدا عن فن السيرة وعن سيرة الكعجول اليومية، لقد أتبث فشلي الذريع في سرد السيرة وهذا كنت أصبو إليه، سأنزل من هذا المنبر الخطابي العتيق، وسيكون السرد من الآن بواسطة المصورة اللغوية التي التقطت بها بعض يوميات الكعجول سيكون ذلك في رأيي المتواضع أجدى، لنجرب ذلك:

***

الصورة الأولى بالأبيض والأسود ليوم بالأسود والأبيض:

لقد أعدت ترتيب الأشياء (المنظمة)..
استيقظت هذا المساء باكرا، بعد أن كنت نائما طوال النهار في الثلاجة..
جميل أن تكيف نومك، عداد الثلاجة كان صالحا لأن يكون مصباحا ومنبها، المبرد خير وسادة تضع عليها أو فيها رأسك، صفيحة الباب هي نعم الغطاء الإلكتروني.
مشطت شعري بـ "السَفَنْتُوحَة" التي أهداني إياها صديقي "العريف" و"السفنتوحة" هي آلة بدائية تصلح لتمشيط الشعر ولحرث الأرض أيضا.
الليل كتاب أسود مفتوح والنجوم أطفال أغمضوا أعينهم، وغاب القمر..
حدقت جيدا في الظلام الحالك كنت أبحث عن خط أبيض أقتفي أثره..لا أدري أين يقودني لكني أؤمن أن هذا الشعاع هو قدري..
توقفت كما العادة أمام "الجعقة" أقصد "الحلقية، أرى لسنا يتحرك بدون وجه. كان اللسان يتكلم.. بدأت أستغرب حين رأيت آذانا كثيرة تشرئب نحو مصدر الصوت، ووجوها دون ملامح يتناثر عليها رذاد اللسان... وجوه بيضاء واجمة مضحكة، ومن مضحك الأشكال الجامد الأبدي، الذي يصيخ السمع إلى الأبد دون جدوى، أو الذي ينفخ في مزمار إلى الأبد في مشهد مستمرأبدي، وعبثا بدون جدوى.
أشتري كل الجرائد.. أعود إلى سريري، أقصد ثلاجتي، أغلق الباب.. وأعودإلى موتي المؤقت.

***

الصورة الثانية: للبيض الأبيض في اليوم الأسود

(البيض) طعامي المفضل، وأنا طباخ البيض الأمهر.
حين أتجول في سوق الدجاج أشعر أني في جمهوريتي الأسيرة، أصواتها تطربني، أشكالها وألوانها تثيرني.. هناك من يستغرب من ولهي بالدجاج، لكنه لا يستغرب من وله بعض الناس بالطوابع البريدية أو بالمسلسلات المكسيكية.. شعب الهنود المنقرض كان شعبا مثلي يقدر الدجاج ويفتخر الناس فيه بوضع الريش على رؤوسهم، أكره أن أقلد هؤلاء الهنود لذا صنعت لنفسي قلادة فريدة من نوعها، وخرجت أتجول في شوارع "العوينة". العيون كلها كانت تركز على القلادة، فكرت أنها فكرة جيدة لتحويل عيون الناس عن عينيك فهم ينظرون إليك بوقاحة، حين تضع قلادة كهذه فعيونهم تقع في الفخ وتنصرف عن عينيك حتى لو كنت مصابا بحول ثلاثي.. ما هو الحول الثلاثي؟!
والله لا أدري!!
انتشلتني من تفكيري العميق ثلاثة عيون كانت تحدق في بوقاحة.. كانا يتجهان نحوي، الأول يراني بعين واحدة والثاني أحول لا أدري أين تتجه نظراته، أإلى عيني أم إلى القلادة؟! ربما هذا ما يمكن تسميته بالحول الثلاثي، خاصة أن الوجهين السياميين قد التصقا ببعضهما حتى اختلطت ملامحهما.
سألني الأول:- ماذا تعني لك هذه القلادة التي تتوسطها بيضة كبيرة؟
سألته بدوري: -ماذا تقصد القلادة أم البيضة؟
تدخل الثاني قائلا: - طبعا نقصد البيضة؟
ضحكت مزهوا وأنا أتابع سيري:- العقل الأعور والعقل الأحول لن يميزا أن هذه البيضة هي بمتابة صورة للدجاجة حين كانت صغيرة.
تركتهما يقلبان النظر إلى الداخل وإلى الخارج ويضربان عقلا بعقل مستغربين.
في الصباح أكنس مغارتي بـ"السَبْرُقٌشَّة" وهي مكنسة من اختراعي واسمها ليس أكثر غرابة من "سواتش" أو "نايك". صنعتها من ريش الدجاج وحرصت أن تكون متعددة الاستعمالات، فبالإمكان تحويلها إلى مروحة متى شئت ذلك.
عزلة المغارة تمكنني في كل مرة من اكتشاف الذات والأداة، فعادة ما نكتشف الأداة فنضيع الذات وهو ما يحصل لنا في عصر غدونا فيه عبيد أدواتنا، وقد نفلح في اكتشاف الذات فنضيع الأداة ونغدو عبيد أفكارنا. وها أنا أكتب الآن عن الذات فألزمها ألا تنس الأداة "ستيلوريش"-قلمي المفضل- رمز هويتي، وما عجبت إلا لكاتب يتقيأ الحروف ضد الغرب الفاسق الفاسد دون أن ينتبه إلى القلم بين أصابعه ينتحب ضحكا: (يا أمة ضحكت من جهلها الأمم).
***
الصورة الثالثة: حين يكون يومك خروفا

بعد أن أقرأ كل جرائد العالم (الجرائد التي اشتريتها ذلك اليوم).. أخرج لأرى العالم فأجده على خلاف كل الجرائد..
كوكبة من "الفقمازيريين" تعترضني – والفقمازيريون- هم فصيلة الأشرار في العاصمة "العوينة" وكالعادة فصيلة الطحالب هذه التي تعيش في المستنقعات تطلب مني أن أذبح رأسي وأقدمه هدية لزعيمهم، ويبدو ذلك واضحا من طلب أحدهم:
- ثيابك الجميلة أنسب وعاء لنا، قلادتك الجميلة أجمل حلية في أعناقنا، أقدامك السريعة أسرع خادم لنا،من وجهك المتلون نستمد ماء وجوهنا، ألا تستضيفنا يا أبا المكارم في مغارتك، أم يهون عليك أن نبقى قراصنة هذه الطريق القاحلة.. لمن تتركنا يا أبانا.. ويا أخانا.. ويا أرأف علينا منا..
رَقَّ قلبي ساعتها، انجرفت أحاسيسي كتربة نهرية.. ذبحت رأسي أمامهم وقدمته لزعيمهم.. أحسست وعيني تدوران في محجريهما أنه يقلِّب رأسي فترتج الرؤية وتنقلب.. رمى زعيم "الفقمازيريين" برأسي في جرابه.. تَعَتَّمَتِ الرؤية.
فيما بعد عرفت أنه غير قانع بالصنيع الذي قدمته.
بعد أن تخلص الفقمازيريون مني، بعد أن امتصوا عروق دم رأسي، بعد أن مثلوا بمشاعري المرهفة- دون أن يقصدوا طبعا-.بعدها انصرفوا عني تاركين رأسي يتخبط في ظلمات وظلمات.
***

هرعت إلى مغارتي وهناك وجدت صديقتي "مَعْمَعْتِ البَنَّة" تطبخ طعام العشاء. نبهتها أن لا تنس إضافة البيض (طعامي المفضل). كانت "معمعت البنة" تتصرف معي بتلقائية، وكان شعرها الموجي الأسطوري فراشا نجلس عليه معا تارة، وتجعله ستارة تحجب به جسدها حين تريد تغيير ملابسها تارة ثانية، ومعطفا أسود تلبسه أو نلبسه معا حين يداهمنا البرد تارة ثالثة، ومروحة تطرد الذباب والبعوض وتعطر الجو بالنسائم الأنثوية تارة أخيرة ( لا أدري من استعمل "تارة" هذه لأول تارة).
ترقص "معمعت البنة" فأكتشف روعة شعرها، وأشعر أن إيقاع الحياة الذي يسري فينا يدعونا للرقص فنتقافز، ونخجل، ونتباطأ، ونتشنج، ولا يجيد رقصة الحياة إلا من تكون بجانبه "معمعت البنة" تعلمه الخطوات الأولى في الرقص، هكذا يمضي بنا الليل إلى أن ننزوي داخل الثلاجة. أطفئ الضوء وأوصد الباب خلفي بإحكام.

***
على سبيل الختم:
هي سيرة لن تحيط بها إحاطة الخاتم بالأصبع إلا إن عشتها، وأحسب نفسي راو فاشل حين لا أقدم إلا نتفا من سيرة كعجول لا أجد له وصفا أعم من "الكائن"، وهو بالفعل طفل كائن في أعماق كل منا يمارس شغبه الجميل، ويراقص حياته كما يراقص "معمعت البنة". هذه الأخيرة موجودة أيضا في حياة كل واحد منا، فليراقص كل كائن "معمعة بنته"، ها أنا أدعوكم لأن تعيشوا حياتكم لا أن تقرؤوها.

شكيب أريج

ليست هناك تعليقات: