الاثنين، 12 أبريل 2010

مدارات الكتابة في ديوان خارج التعاليم ملهاة الكائن للشاعر رشيد الخديري


مدارات الكتابة
في ديوان"خارج التعاليم ملهاة الكائن"* للشاعر رشيد الخديري

شكيب أريج- طاطا

" الورق
حتى هو
بأنفه الأفطس
وظهره المتقشر
لم يطمئن إلى منظر الزرافات
مرة تزحف
ومرة تجري " (**)

إذا كان الورق الأفطس المتقشر لم يطمئن لحروف تدب حياة عليه، فكيف يمكن أن أطمئن إلى ديوان يعلن منذ عنوانه خروجه عن التعاليم، ويعلن منذ الإهداء الذي خصني به الشاعر أن الديوان ثمرة خطاياه وعقوقه على السلطة الأبيسية بشتى أشكالها وتمظهراتها. كيف يمكن أن تختلق وئاما سلميا وأنت تقرأ فاتحة )خارج التعاليم(:
" سامحني يا أبي إن أخطأت
يوما تدرك أني كنت
على صواب"(ص07)
وهي عبارة تذبحك من الوريد إلى الوريد، لتقف على مضاضة الحد بين الصواب والخطأ في زمن الأدعياء والأوصياء.
هل نقول إن الشاعر رشيد الخديري في ديوانه الأخير" خارج التعاليم "، يفرغ نفسه حد الموت كي يمتلئ بملاك أنثى؟. قد يستوعب هذا التساؤل مدار الكتاب الإبداعية ككل، وقد يسعفنا في الإنسياب بدعة وبقلق في مدارات رشيد الخديري الشعرية.

• مدار الموت:
بتعميده القصيدة بتيمة الموت يكون الشاعر رشيد الخديري قد أشعل القناديل المبتلة، وحرك الأجراس في ذلك العمق السرمدي ليبدو لنا جوهر (الموت) في قراراته رقراقا صافيا.
وبين أسطر القصيد وفي ثخوم المعاني تصاحب تيمة الموت الرؤية فتسيجها وتلونها بالغموض والغرابة، وبالمرارة والحلاوة.
هل الموت مخيف؟ قوي؟ مسيطر؟
(أنت نفسك دليل حي/ على أنه ليست كذلك)، هكذا تجيبنا الشاعرة البولوندية "فيسوافا شيمبورسكا"، لكننا لا نجد هذه الحيرة تكتنف الإحساس بالموت عند رشيد الخديري، فالموت بالنسبة إليه، محطة الوصول: " حين أموت يا يوربيدس قل لأمي/ سنلتقي هناك " (ص67) وهو الأمان بعد رحلة الألم: "ما الموت ما لم يحفظني في قلبه؟"(ص67)والموت هو الحياة:
" وإذا ما مت يوما – هذه وصيتي –
أنا حي
أنا حي
أيها لموتى(ص17).
وكأن هذا المقطع ينطق بحال لسان الحلاج:
أعمى بصير، وإني أبله فطن ولي كلام إذا شئت مقلوب
فنحن أمام رؤية مقلوبة للعالم، الموت هو الحياة والحياة هي الموت. ورغم أن الصورة تبدو معقدة إلا أن اكتناهها هو اكتناه الوجود. فإذا كانت الحياة هي" ما جناه علي أبي" استنادا إلى المقول الشعري المأثور للمعري، فإن من أهم مبادئ الخروج عن التعاليم :" هذا ما جنيت على نفسي/ أعدوا/ نعش إقباري"(ص27)، في دلالة صارخة على أن الانطلاق إلى الموت =( الحياة والخلود) هو في حد ذاته خلاص من حياة مميتة مريرة " ما أمر هذا الوجود"(ص36)
الحياة الحقيقية تأسيسا عل هذا المعنى نتتساءل، أتتواجد أمام الباب أم خلفه؟ تجيبنا مرة أخرى الشاعرة "شيمبورسكا" :
" دائما ما يأتي الموت متأخرا
عبثا تمسك على نحو عنيف بمقبض اليد
لباب غير مرئي
فمن أدرك هذه اللحظات
أدرك أن الموت ليس بقادر أبدا على اختطافها"
وأدرك أن لاشيء " يشعل قنديل عشبنا سوى الموت"(ص09)،وأن لا جواز لنا في زمن الفقر والحرمان والأبوة الغاشمة إلا الموت(ص11)، وبه نحقق حياتنا(ص29). هكذا تحضر على امتداد الديوان رؤية تناهض الحياة المعذبة المشحونة بتعاليم الآباء وهي رؤية غير بعيدة عن المطالبة بالحق في الموت والإعلاء من قيمته:
سأحيا يا يوربيدس كي أستورق الموت(ص68)
إنه الطموح المشروع في سبيل تأشيرة السفر من السؤال إلى اللاسؤال، وفي سبيل الخروج من ظلمة رحم الحياة إلى برق الأبجدية(ص59).

• مدار المرأة:
باستسلام سنبلة لحد المنجل يمنح الشاعر للمرأة:
أنت أيتها المرأة لك
ا
ش
ت
ع
ا
ل
ي"(ص49)،
لكن ما المرأة؟ أكل امراة هي أنثى؟ هو السؤال الجوهري الذي يثيره القصيد عند رشيد الخديري:
( ما الفرق بين والأنثى والمرأة؟
غير خلل
في نطف التكوين) (ص25).
في زمن خانت فيه الأشياء والموجودات معانيها، فلم تعد أوفيليا هي أوفيليا:
(أنت لست امرأة
بل عجينا
و
ح
ط
ا
م
ا) (ص16).
في زمن الاندحار والهبوط . كل القيم تنزل بما في ذلك الأنوثة والمرأة والحب:
(هذه المرأة خانت ود السماء
فلتصعدي هبوطا هبوطا
أيتها القناديل المبتلة) (ص15).
وقبل أن يكون الحب موضوعا لعلاقة المرأة بالشاعر، وأقنوما للخروج عن التعاليم، نقف أمام هذا الاستفهام الاستنكاري:
( ما الحب
وقد مشى في أثر أوفيليا الرخام؟)(ص47).
ثم تطالعنا صور أخرى تسائل المرأة: هل تعرف الحب؟ هل تعرف جسدها الخشبي من جسدها الحصان؟ هل تعرف من أين ينبثق الحب؟ .
وما يزال الشاعر الذي ينتصر لقيم الأنوثة حائرا حول حقيقتها وطبيعتها، وسرها فهي الأنثى/ المرأة وهي الوردة والشوك، وهي الصحو، والسكر وهي الجرح، والسكينة، لذلك يسائل الشاعر في حيرة شبيهه في العشق امرؤ القيس:
(كيف آخيت بين حجر وحجر
بين دمع ودمع؟
مشيت في أثرها)(ص35).
توجه الشاعر إلى المرأة هو توجه إلى مركز الكون وجوهره، هو توجه إلى القلب الذي يمتص العالم، أو بالأحرى هو الانجذاب والامتصاص نحو هذه البؤرة التي جاز لنا أن نقول مع "بول كارول" إن حبها هو"رعبنا" وأن عينيها والجمال الكائن بهما حسب( د. جونز) هما اكبر لص تحت قبة السماء.
لكن مع الشاعر رشيد الخديري في "خارج التعاليم" نحن أمام بيان يعلن فيه ن اضمحلال الأنوثة، وعن كون المرأة في زمن الملهاة هي إما سرير للبغاء المقدس، وإما شهوة مطفأة (ص46)، فهو لا يعبر عن رعبه من جمالها، بل يعبر عن اشتعاله بالمرأة ومر آلامه منها.
هكذا شكلت المرأة مدرا لتصورات ورؤى الشاعر عن الحب والجنس والأنوثة. رؤى تنطلق من آلام ومعاناة اليومي ومن احتكاك الندى(شاعرية الشاعر) بساطور(الواقع اليومي الفج/ الفظ)
النص مع الشاعر رشيد الخديري -هو قبل وبعد كل شيء- البرق الذي يتيح للوعي أن يستشف عالما لا حدود له، ولذلك فهو إضاءة للوجود المعتم :
( ماذا أفعل بالشمس
وكل جسدي
منافذ ضوء)(ص71 ).
إنه الشاعر حين يتوحد مع النص، وتسري في عروقه الأبجدية ( تحت قشرتي تسكن الأبجدية) (ص34 ). هذا الإندغام في النص معه /وبه /وفيه يدل على أن الشاعر يقد الحرف من دفق إحساسه، وأن مدارات الكتابة لديه رهينة بانبلاج القصيدة (ص31).
وعلى هذا الأساس فكل قصيدة هي شمس، وشمس الشموس -فيما يبدو لي- هي قصيدة "ملهاة الكائن"، واسطة عقد الديوان وبؤرته، وليس عبثا اختيارها لتكون العنوان الفرعي على الغلاف، بخروجها عن الأنموذج شكلا ومضمونا، وبتداعي صورها تجعلني أقر مع "سان جون بيرس" أن الشاعر(سيد شعب من الصور)، ففيها يعلن الشاعر خروجه عن وصاية الآباء اللغويين والفراهديبن وأبوة المؤرخين والقبليين وأبوة النقاد والشعراء.. يخرج عن الطابور ويمتشق قصيدة تصدم أفق القاريء، تقلقه، تنغص عليه الحرف والكلمة والمعنى. تغضبه، تدهشه، تحرق دماءه على طريقة نيرون، بل والأكثر من ذلك، تجعل أنفاسه متسارعة، وتتركه لاهثا وراء ملهاة الكائن.

وختاما فالديوان يبلور رؤية هذا الكون الصغير(الإنسان)، -على حد تعبير أدونيس- وشهوته لاحتضان الكون الكبير، وتلبس اللانهاية، لذلك "فالورق، حتى هو، بأنفه الأفطس، وظهره المتقشر، لم يطمئن إلى منظر الزرافات، وهي تجري في دمائه، بدون أعناق "، فكيف يطمئن الورق إلى رؤية مدججة بالشموس.

(*) ديوان "خارج التعاليم" ملهاة الكائن، الصادر عن مطبعة أنفو برانت سنة 2009 هو الديوان الثاني في مسيرة رشيد الخديري الإبداعية بعد ديوانه الأول "حدائق زارا" الصادر سنة 2008. يقع هذا الديوان الشعري في 69 صفحة من الحجم المتوسط ، وبلوحة من إنجاز الفنان التشكيلي اليمني صالح الشبيبي، ويضم بين دفتيه 7 نصوص شعرية هي : خارج التعاليم، الظل، موت يوربيدس، صنبور الأسئلة، ملهاة الكائن ،سركون بولص، العقاب.

(**) محمد بنطلحة، ليتني أعمى، فضاءات مستقبلية- دار القرويين. طبعة 2002

نشر بالمنعطف الثقافي- العدد 262- السبت/الأحد 14- 15 نونبر 2009- ص9

ليست هناك تعليقات: