الاثنين، 30 يونيو 2008

الحاضر والغائب في مجموعة "شجرة القهر" القصصية لمحمد كروم

شكيب أريج
الحاضر والغائب
في مجموعة "شجرة القهر" القصصية لمحمد كروم

يقال أن الكلمة حين تكتب تخرج من يد المبدع مرة، وحين تنشر تخرج من يده مرتين وإلى الأبد، ورغم ذلك لا أرى أنه مبرر كاف لفصل الإبداع عن صاحبه، والانسياق وراء مقولة "موت الكاتب" البنيوية، لأني أعتبر الإبداع كائنا بيولوجيا موصولا بخيوط سرية بجنون الكتابة، وبذلك الوباء داخل الأصابع، وداخل الخلايا.
ولأن قراءة القصة هي الوجه الآخر لكتابتها أجدني مورطا وشريكا للكاتب في همومه، ولأن الكتابة في أساسها هي عملية اختيار، يختار الكاتب بوعيه وبلا وعيه معا، وإن صح التعبير هذا الموضوع دون غيره، وهذه الشخصية دون غيرها، تجتذبه الفوضى أو النظام، يضع هذه الكلمة أو هذا الشيء في هذا المكان دون أي مكان آخر. وإذا قلنا أن للكاتب فلسفته الفنية، فللقارئ أيضا خلفيته السوسيوثقافية القرائية على حد تعبير الناقد المغربي سعيد يقطين، وله الحق أن يكون موجِّها بدل أن يكون موجََّها.
من هذا المنطلق أتساءل عن الإضافة التي قدمتها الشجرة وعن القيمة التي كنت أنتظر أن تضيفها، عن ما تجاهر به القصة وما تسكت عنه.

1- العنوان:
العنوان في المجموعة- وأقصد عناوين قصص المجموعة- هو ذي وشائج وطيدة بالنص، فهو في الأعم تكثيف لدلالات النصوص.
ولن يخفى على القارئ أن العناوين عند محمد كروم تطمئن إلى بنية زمنية نلحظها بوضوح في: (حدث ذات صباح/ عام الكلاب/ رأس السنة/فجأة/حاطب ليل) ولا تسلم قصص أخرى من إحالات على الزمن مثل: (القانون الجديد/القصة الجديدة/الحذاء المؤجل/ النجاة النجاة)
يميل الأستاذ محمد كروم كثيرا إلى الاعتماد على ما أسميه العنوان الموارب – مثله مثل الباب- يكشف عن الداخل ولكنه لا يفضح أسرار البيت/ القصة.
هكذا هي العناوين في مجموعة شجرة القهر، إذ لا وجود للجمل الطويلة أو الأساليب ، وهي لا تشاغب القارئ كثيرا، ولا تتنكر للنص على غرار (الزرافة المشتعلة لأحمد بوزفور..) ونعدم أن نعثر على العناوين الشبيهة بالواجهات المضيئة اللامعة، المغرية والخادعة مثل ( إلى من يهمه الأمر- قصة تكتب نفسها- الرجل الذي..).
حضور أيضا لشبكة التناص التي لا يكاد ينجو منها كاتب ، هكذا سنجد عناوين متناصة عن قصد أو عن غير قصد: (النجاة..النجاة/ الصعود إلى الهاوية/ أحلام كبش..)

2- بدايات ونهايات:
معروف أن تشيخوف القاص العالمي كان بعد أن ينتهي من كتابة القصة يقطع بدايتها ونهايتها ويحتفظ فقط بالباقي.. أما أنا فسأفعل العكس.
بالأبيض والأسود تبدأ جل قصص محمد كروم مقترحا بوابة جحيمية إلى العالم السردي وبنفس تقنية الرسام الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي يستعيض الكاتب عن قوس قزح ليلوذ بالأبيض والأسود:
- "يمتد الليل خيط سهاد فولاذي.." قصة القهر ص18
- "شمس حزيران تسقط على الأرض قارا وسرابا" الدائرة ص33
- " رياح الخريف تعوي كالذئاب، أشجار عجفاء تئن..حمار هزيل غائر العينين"عام الكلاب ص12
أما النهايات فهي أشبه بلوحة زيتية دامعة، تسيل. نهايات قاتمة لا تتغيى الامتاع والإشباع بقدر ما تتغيى الانفتاح على الجرح الانساني وهذه أمثلة دالة على ذلك:
- الدائرة (ص35): "أضع يدي في جيوبي، أحسها فارغة، أتحسسها من جديد فأجدها فارغة، أحس بالساحة تدور ورأسي يدور، وأنا أدور."
- معلمة بالقوة (ص32): " كانت القرية تختفي وراء الدموع والغبار والسراب"
- موزع الخبز(ص30): "ضرب كفا بكف. طاف بعينيه في كل الاتجاهات ولم يدر أي طريق يسلك."
هذه هي البدايات والنهايات التي تفرض سلطتها على منطلقات ومسارات السرد، فما الذي أفتقده في هذه البدايات والنهايات؟ أفتقد تلك البدايات الفردوسية أو ذلك السرد الذي يفتح لك أحضانه في الأسطر الأولى ويكشر عن أنيابه حين تدخل أتون القصة فتطبق كماشة السرد على رأسك.. أفتقد ذلك السرد الأسطوري الذي تستهويك بداياته لتنتهي القصة وأنت منهزم، ممزق، ممسوخ..
أما النهايات فمن الخير أن غيب محمد كروم تلك النهايات المرافئ التي ترضي عقد القارئ وتغديها وترضي فضوله فتسد شهيته للقراءة.

3- الموضوع:
أ- الحياة الفردوسية والفضاءات البرجوازية، والشخصيات المهمة، أو القيادية أو الارستقراطية غائبة في المتن القصصي لمحمد كروم ألأنه ببساطة شديدة لا يعرف هذه العوالم؟ أم لأن التصاقه بالمهمشين والمقهورين واقترابه من المعذبين المفقرين حال دون ذلك؟ زينب فهمي رغم ارتباطها بالطبقات الشعبية في مجموعتها القصصية "تحت القنطرة" إلا أنها تناولت قصص كثيرة من زاوية السيد والقصر الباذخ وكانت من خلالها تدين لا عدالة المجتمع.
ب – الطفولة موضوعة أساسية تكاد تغيب في المجموعة، لكن نفسها ونزقها يسكن الكاتب خاصة في: (أحلام كبش- البحث عن السروال- الدائرة..) وللإشارة إلى أهمية موضوعة الطفولة مضمونا وروحا فقد بلغ الاحتفاء بها أن عرف أحمد بوزفور القصة بالطفلة الخالدة، ولم يتورع القاص المغربي سعيد منتسب من القول أن :" الكاتب الذي لا يسكنه الطفل لا يعول عليه، للطفل زرقة البحر وللكبار بلاهة الرمال".
ج- قصة القصة أو القصة التي تفكر في نفسها: هو منزع تجريبي لم تحتف الشجرة به وليس له حضور لافت في المجموعة باستثناء في قصة (الصعود إلى الهاوية) حيث يلاحق السارد البطلة، وإشارة عابرة في قصة (أحلام كبش) حين يعتذر السارد: "إني أتنفس تحت... معذرة نزار وحافظ على هذه الضرورة غير الشعرية " (شجرة القهر-ص44) هذا الاقتحام البريختي هو أساس العديد من الأعمال الإبداعية (ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي/ يوميات سراب عفان لجبرا ابراهيم جبرا..) وهو إن كان السبب في افلاس العديد من التجارب الإبداعية فهو تحد تجريبي يعد تجاهله تماديا في الكتابة اتي ترأب جدار الايهام المتصدع.

في غياب هذه المواضيع/الاختيارات، نجد أن الفقر المدقع والمجتمع البائس اليائس حاضر بقوة في المجموعة من خلال تسليط الضوء على هموم المواطن الكادح: البطالة، الدعارة، السلطة ، التهميش، البادية، معاناة التعليم..

4- الواقعي والغرائبي: الحاضر والغائب
ربما لأن الواقع أغرب من الخيال يجنح محمد كروم إلى واقعية تكشف العروق العارية وتسمي الأشياء بمسمياتها، فهو يقودك عبر الأزقة والشوارع ويستعيض عن جزيرة الوقواق بساحة جامع الفنا وعن بساط الريح بالحافلة المكتظة، وعن الفارس الشهم والأميرة النائمة بفتاة عادية وشاب هو في أحسن الأحوال موزع خبز.
الواقع المتجدر في المجموعة هو الواقع الرتيب الساخن ووطأته وبروز أنيابه الصفراء تجعلنا نتوق إلى الحلمي والغرائبي، فماذا لو أن الكاتب عمق المفارقات الغرائبية في المحكي ( وكما هو الحال في قصة "أحلام كبش") هل سيكون إيغاله في التجريد قد أبعده عن القضايا المؤطرة للحكي (القهر)؟

5- القرية والمدينة: الحاضر والغائب
علاقة الكاتب ببيئته، بالبيئة الأولى، علاقة خاصة استثنائية، إنها النبع الذي يمتد في أعماقه ويمنحه باستمرار مادة للكتابة والذكرى. لهذا كله تهيمن ملامح البداوة على الحكي عند محمد كروم فتغدو القرية أو البادية مرادفا للفقر والقهر ومرادفا للأصل والمنبع الصافي، فنلمس حكيا عاشقا للفضاء البدوي باعتباره فضاءً دافئا حميميا وقاسيا في نفس الوقت، ومثيرا لمشاعر الحنين والذكريات.
وفي مقابل هيمنة قيم البداوة وفضاءاتها هناك تبخيس للمدينة وتغييب لسحرها ومظاهر الجدة فيها، فهي المدينة وإن حضرت في أكثر من نص فإنها لم تتشابك مع الوجدان كما في نصوص إبداعية شهيرة (سمرقند عند أمين معلوف/ طنجة عند محمد شكري/ بيروت عند غادة السمان..).

6- الوعظ والفضح:
القصة عند محمد كروم بواقعيتها المفرطة هي مرادف للإدانة والفضح، وهي بعدم إغراقها في الرمزي والغرائبي ثؤتر القول جهرا، لذلك خلت القصة من الوعظ والإرشاد ولم يقم السارد بإمساك يد القارئ كطفل صغير إلى حين اقتياده إلى (روض) أو (كُتاب) الحقيقة ، وهذا ما أعطى للقارئ هامشا شاسعا للاختيار شأنه في ذلك شأن الكاتب، وذاك أجمل ما في القصة.

7-صورة المرأة في المجموعة:
المرأة في المجموعة هي "الأم" الحنون، رمز الرضى والقناعة (الصراصير) لا تظهر إلا في المطبخ (القهر).
المرأة في المجموعة هي "الزوجة" الراضية، لا تملك إلا العويل(حدث ذات صباح )أو النوم (القصة الجديدة) وهي في علاقتها بموضوعة القهر عبء ثقيل على الزوج (القانون الجديد).
نجد أيضا في المجموعة المراهقة والمرأة المغرية، الفاتنة والمتاجرة بلحمها (رأس السنة/الصعود إلى الهاوية/سقط القناع/موزع الخبز/الدائرة) إلى هنا تحضر المرأة كأداة إذ لا وجود لصورة الأم المكافحة المناضلة (أنظر صورة الأم في ثلاثية حنا مينة السيرذاتية/ أو في شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف..)
ولا وجود لصورة الفتاة المثقفة العصامية المتمردة على الحياة الذكورية وعلى العادات والأعراف الاجتماعية.
لكن في المقابل تحضر الفتاة العاشقة ذات الأحاسيس الأنثوية المرهفة (القهر/ فجأة) والمعلمة المثابرة التي تواجه مصيرها بقوة (معلمة بالقوة) بل والأكثر يحتفي العنوان بالمرأة في قصة (شاما والباشا) لينقل لنا صورة امرأة بدوية قوية في ارتبطاها بالطبيعة وبعدها عن الرسميات والأضواء.

8- الكتابة على المرآة:
كثيرة هي الكتابات الحديثة التي تنظر إلى اللغة ضمن مفهوم الزخرفة والبراعة التشكيلية، غير أن لغة محمد كروم هي لغة غير متبرجة ، لا تعير كبير اهتمام لأناقتها بقدر ما تركز على الفصاحة والمباشرة، لذلك فهي في معظم السرد تقريرية وصفية. وعن نتف الشعر الموظفة في القصة فقد نجحت في كثير من الأحيان في التعبير بشكل أعمق.
غير أن ما يغيب هنا هو شعرنة لغة القصة، وشعرنة اللغة موقف حداثي تكمن خطورته في أنه قد يزج بالكاتب في منمنمات زخرفية فارغة، لكنه رغم ذلك دخول منتش إلى الذات اللغوية على حد تعبير أحمد بوزفور وقد يجعل اللغة عاصفة ومتوهجة ونابضة، وإن شئنا القول: إن التعبير الشعري قد يجعل الإبداع باللغة إبداعا فيها. ورغم أن شعرنة اللغة وشكلنة المحكي إطار تجريبي غير مأمون العواقب فإن الكتابة باعتبارها مغامرة لا تؤمن بالمستحيل.

على سبيل الختم:
الغائب والحاضر لعبة نقدية تطمح أن تذيب قارات الثلج بين الكاتب والقارئ، ولعل من أهم نعمها أنها تحفز القارئ على قراءة ما خلف السطور، وفي نفس الآن تحث الكاتب على ركوب مغامرة الكتابة من جديد، ولأني أؤمن أن هناك ممرات سرية كثيرة ومهمة فالمطلوب من المبدع طرق واكتشاف هذه الممرات والوصول إليها وأيضا سلوكها من خلال تجارب وأساليب متعددة .
ومن هنا فإن (مبدأ التجريب) في الأدب وخاصة في القصة مشروع إلى أقصى حد ومطلوب أيضا، ويتوقف على مدى صلة المبدع بالفنون الأخرى . أتصور أن أي قاص يواجه مأزق التجريب وبخاصة في مرحلة معينة من الكتابة، قد يتمكن من السيطرة عليه إلى حد يفاجئه هو نفسه.
شكيب أريج


ليست هناك تعليقات: