الأحد، 25 يناير 2009

جرار العسل في حدائق زارا

جرار العسل أو الشاعر الرائي
قراءة عاشقة في ديوان حدائق زارا للشاعر رشيد الخديري



جاء على لسان بطل رواية (عرس بغل) قوله:" كلنا تلك الجرة الملآى بالقطران"[1] ، فإذا كان الإنسان في تصور البعض شديد القتامة، فإننا هنا ننفتح في هذا الأفق الشعري على جرار ملآى بعسل الكلام. حدث وأن تجرأت وكسرت بعض الجرار دون خوف من زنابير الكلام لأنفتح على الأصداء التالية في بياضات وعتمات روحي:



1- الجرة الأولى:
"كن نصا له شهوة الجبال"
[2]
وأتأمل هامة النصوص في "حدائق زارا"، وأقفز على الإهداء الموجه إلى امرأة من برج الشمس، لأنه الإهداء الواجهة، أما الإهداء الحقيقي فيقبع سطرا يتيما " طوبى لكم بهذا المجاز"
[3] . فلتهنأ أيها القارئ بهديل المجاز، وبعسل الكلام.

2- الجرة الثانية:
" كم فاض المعنى"
[4]
وأغرق حين يبلغ موج الكلام درجة الهديان، ولاشك أن لغة الوجدان هي " غطسات سريعة للروح في التيار الكوني"
[5]، هي لغة وجدانية روحانية لن يسعفها ولن يسعها اللفظ، لذلك أجدني موزعا أمام تشضي المعنى.

3- الجرة الثالثة:
"لا أحد يعيد للماء حيرته"
[6]
ومن يعيد لي حيرتي وكثير من شعر الحدائق مبهم في تأثيره الأول، مما يضطرني أن أتجشم عناء القصيدة حتى تجسم أمامي بهية شاهقة صاعقة.
التأثير الأول هنا ليس أثرا بجماليونيا شبيها بالحب من أول نظرة، بل هو أثر استباقي يزرع بؤرة السؤال/ الحيرة في المكان المناسب وفي الوقت المناسب.


4- الجرة الرابعة:
"كما البحر أهيم في عزلتي "
[7]
كم تحتاج يا زارا من العزلة؟ وإلى كم تهيم في مجرات الذات؟
في الحدائق يا زارا هناك اتصال بالذات حد الالتصاق، وفي الآن نفسه هناك انفصال عن الذات حد الانعزال. تلك المفارقة هي عكازتك يا زارا، بها تؤسس لحكمة تراوح بين التعالي عن الوجود، والذوبان فيه.

5- الجرة الخامسة:
" قد تزوج قيس بٍحيرتي
لم تعد ليلى سوى سقط متاع "
[8]
كذلك الشاعر المُجيد يعيد نظام الأشياء، ونظام النظر إليها، فيحصل عنترة العبسي على عقد ازياد من مكتب الحالة المدنية، وتنتهي حيل شهرزاد خرساء، ويستقيل ابن زيدون من مهامه السياسية.
لفت انتباهي فيي الحدائق " بثينة الأحلام" وهي تتواثب كغزال بري، لكن ما شد انتباهي أكثر هو قيس في الحدائق، إذ هو الرمز/ البرق يحضر منتصرا لعالم المثل والقيم، في حين لا تكتسب ليلى
شرعيتها إلا خارج الحدائق..
حين توقفت أمام قيس داهمني إحساس بالحياة والحب، وشعرت أني" قلب يمتص العالم" على حد تعبير الشاعرة أندريه شديد.

6- الجرة السادسة:
" المرايا .. جماجم النسيان"
[9]
من منكم رأى وجهه الجمجمة في المرآة يوما؟ لا يفعل ذلك إلا الشاعرالرائي ، الـــذي يؤمن أن "الشعر كشف عن عالم يظل في حاجة إلى كشف"
[10].
زارا لا ينظر إلى القشرة البراقة على سطح المرآة.. إنه ينبش المرآة .. ومن ينبش عليه أن يتحمل
عواقبه، علها تكون خرابا جميلا.

7- الجرة السابعة:
الجسد:
تحسس جسدك فعبور الحدائق شبيه بعبور الجسد من الروح، وليس العكس. عليك أن تنضبط لمنطق الحدائق، أن تنصاع لمنطق زارا، الذي هو منطق الرؤيا، ألم يقل الحلاج الرائي:
أعمى بصير وإني أبله فطن ولي كلام إذا ما شئت مقلوب
تحسس جسدك، لأن الجسد قد يكون غماما، وقد يكون نصا
[11].
يحضر الجسد في الكثير من الدراسات السيميائية و الأنثروبولوجية على أنه وشم، أو هو فضاء للمتخيل والرمزية
[12]، غير أنه في عوالم الإبداع والأدبية يُتخذ مرادفا للكتابة، ووإن شئنا الدقة " هذا الجسد كتاب "[13] أو هو " لوح وصايا"[14].
الجسد في الحدائق يظهر في أبهى إشراقاته معلما للنور، والكتابة، والانكتاب. بعيدا عن الجسد الإثارة/الشهوة، بعيدا عن الجسد المنذور لغبار رميم الرموز. قريبا من الجسد المنذور لعذابات السنين، وذبيب الحياة. ربما هو نفسه ذاك" الجسد وعاء الجرح"
[15] المنفتح على الجرح الإنساني.
تحسس جسدك، قد يكون كتابا قيما، ألم تسمع بقول العقاد: " الكتب كالناس منهم السيد الوقور، ومنهم السيد الطريف، ومنهم الجميل الرائع، والساذَج الصادق...". الدنيا نفسها قد تكون كتابا، كما غنت الراحلة أم كلثوم " هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر".


8- الجرة الثامنة
" أقول يا جن الحدوس
اسكني "
[16]
جن الحدوس لا يسكن إلا الشاعر الرائي، وصاحب الحدائق يؤمن أن الرؤيا جوهر الشعر، ففي حوار
أجري مع الشاعر رشيد الخديري، أقر فيه أن الخلل في الشعر المغربي هو غياب الرؤيا.
صاحب الحدائق مسكون بجنون الرؤيا، لذلك لن نستغرب إذا إستهل الديوان بقوله: " للرؤيا بعد خامس"
[17]، وأن ينهي بقوله في آخر قصيدة:
" تشابكت الرؤى فحط
فوق جرحي
كاف الخطاب"
[18].
الحدس حاسة سادسة لا غنى للشاعر الرائي عنها، أما القارئ فقد تكفيه خمس حواس متيقظة، لكن المؤسف أن حواس أكثر من ثلاثة أرباع البشرية بليدة، وإلا كيف نفسر كون الشعر قد غدا منبوذا كمسيح كذاب.
أتتساوى الحاجة إلى الخبز والشعر لدى الإنسان يوما ما؟. تلك إحدى طموحات الشاعر رشيد الخديري: " سنواصل الحفر والكتابة بأسناننا، وأظافرنا حتى يصير الشعر مثل الخبز ضروريا للحياة.."
[19].


لنأمل أن تنضاف حاسة الحدس للشاعر المغربي ذات شعر.
ولنأمل أكثر أن تستيقظ وردة الحواس لدى القرآء عامة ذات حب.

شكيب أريج
[1] (عرس بغل) الطاهر وطار- ص62
[2] حدائق زارا- رشيد الخديري- ص51
[3] نفسه ص43
[4] الصفحة نفسها
[5] باولو كويليو " الخميائي"
[6] حدائق زارا – ص44
[7] نفسه. ص45
[8] نفسه.ص 47
[9] حدائق زارا - ص41
[10] أدونيس- "زمن الشعر" ص09
[11] حدائق زارا- ص38
[12] رشيد الحاحي- النار والأثر. المعهد الملكي للثقافة الأمايغية – ص30

[13] حدائق زارا ص 38
[14] نفسه والصفحة
[15] حدائق زارا ص26
[16] نفسه. ص34
[17] نفسه.ص05
[18] نفسه. ص54
[19] حوار نشر في مجلة دروب الإلكترونية، حاوره الشاعر عبد الهادي روضي

هناك 6 تعليقات:

abou9othoum يقول...

ومضات جميلة و لوحات بهية و عودة محمودة.
أبو قثم

نبراس العتمة يقول...

مرحبا أبوقثم
لا عدمت طلتك البهية، أتمنى أن تجد بغيتك في حدائق زارا وفي بيت الفوانيس
معا من أجل تدوين تقدمي
مودتي

^ H@fSS@^ يقول...

حبيت اجي و اتطمن عليك
مؤكد انت توقفت عن اضرابك عن الطعام
حركة جريئة منك لشعورك بالعجز
و شعورنا كلنا بالعجز
لكن لو كلنا متنا
مين حيوصل صوت الحق يا عزيزي
قد يبدو كلامي لك انانيا و قاسيا
لكن مادام فينا قلم بيكتب و عقل بيفكرو لسان بيحكي
فلازم نفضل عايشين لاخر نفس

تحياتي

نبراس العتمة يقول...

حفصة طيفك الملائكي مادام حاضرا يتعقب تدويناتي فذلك معناه أن الفوانيس تمنح ضوءها لأبعد نقطة..
شكرا على التعزية: عزاؤنا نا فينا
مودتي الغالية

رجل من غمار الموالى يقول...

تحياتى يا أخى
..............
حقاً
إنها مأساة يا أخى
أن تملك بعض الحس الإنسانىة فى عصرنا الحالى
... وترى ما وراء المظاهر
لتسبر أعماق الروح
......
كما قال فاروق جويدة
لو تصبح انساناً تصبح بئراً للأحزان
.....
دمت بخير

نبراس العتمة يقول...

أيها العزيز

لو تصبح انساناً تصبح بئراً للأحزان
أو جرح حوله العسل

أحييك على تجاوبك مع هده المقاربة
مودتي