الأحد، 12 أكتوبر 2008

كائن ذهني


كائن ذهـــني

مهداة إلى: Jack Sparrow

الكلام في كل مكان ! فإلى أين يذهب من يريد الهدوء والسكينة؟ أيوجد في هذا العالم طائفة من الخرسان لأنتمي إليها؟ هل يرحمني الله ويمنحني موهبة الطرش، فأحيا سعيدا في جنة السكون الأبدي. جبران

عندما أعود في المساء إلى غرفتي أجد الكلام الذي سمعته سحابة نهاري.. سكاكين تفري مخيلتي المنسربة كخيوط من الدخان.. أتذكر صباح الجرائد، تلك التي مثل طوفان من النمل ينهش كل ذرة من جسدي..كل شيء يرن ..الهاتف، الساعة الحائطية، جرس الباب.. فأحس بأضلعي تصطفق بعنف كباب أسلم قياده لجواد الريح.
أفتح التلفاز..بل أفتح نفسي أمام شاشة التلفاز لأعرضها للموجات المتوغلة في مسامي، لأندلق في فوهة بركان، لتندلع حرائقي..
قناة إخبارية: شجة على ظهر مرآة محدبة، أفكار تتجه بشكل ملولب، تتناثر كحبات زجاج كأس سقط من عل..تورثني القهر شاشة الحرب، تدمي مشاعري فألوذ بصمتي متقنفذا..
قناة غنائية: تذبحني رعشة الكمان، أحس أنامل البيانو أصابع في عيني، وأزيز الناي كرصاصة تتثقب آذاني ، ليت لي جفنا أسدله عليها، وكمن أصيب بالغتيان أعيد صدى تلك الأصوات بعذاب وأنهد واجما.
قناة دينية: " يا أمة الثقلين ! إن إمام الزمان يبارككم ويغفر ما تقدم من ذنبكم وما تأخر.. ويبلغكم أن الشريعة قد بطلت لأن ساعة الحشر قد حانت فلقد فرض الله عليكم الشريعة لكي تستحقوا الجنة وقد استحققتموها وهي من اليوم لكم وعليه فقد تحررتم من نير الشريعة. وكل ما كان محرما أصبح محللا وكل ما كان فرضا أصبح محرما"
أنمحق.. وأصابعي على الروموكونترول أشعر بها تذوب، تشتبك بالأزرار، تسيل وبشكل مخاطي.. يتابع المخلص:
"..حرمت الصلوات الخمس لأننا الآن في الجنة متصلين بالخالق على الدوام ولا حاجة بنا إلى التوجه إليه في ساعات محددة، ومن يعاند في إقامة الأوقات الخمسة يكشف بذلك عن قلة إيمانه بيوم الحساب، فلقد غدت الصلاة عملا من أعمال الكفر والجحود..".
أنسل من بين الحقيقة والخيال..أقف عاريا تبدو عروق أفكاري متشنجة، ترتطم فكرة سارحة على شاطئ حجري، فأشعر بها ساخنة كصفعة حمراء على الخد، وصوت المخلص ما زال يلعلع: ".. وفي مقابل ذلك فقد غدت الخمرة- وهي شراب أهل الجنة- كما جاء في القرآن من المحللات وعدم شربها آية على ضعف الايمان.." أغوص في صمتي أخيرا..
- قناة رسمية : يعيش القائد المفدى، ينام، يجلس، يقرفص..
القائد المفدى يعلن..يقف..يمشي..يأكل.. يتزوج..ينجب..
ابن القائد المفدى يلتقي..عم القائد المفدى يستمع..
هتافات الموالاة: بالروح بالدم نفديك.. بالروح بالدم نفديك
هتافات المعارضة: بالروح بالدم نفديك.. بالروح بالدم نفديك
أخ القائد المفدى يحتفل..
جدة ابنة أخت القائد المفدى في ذمة الله..
أتمغنط..أتطبع..فأجد صور عائلة المفدى في ألبومي الشخصي، في الحمام كما في غرفة نومي، وحتى في هواجس صمتي.
قناة إباحية: حاد كصرير باب عتيق هو صوت أنثى تدلك قضيبا، صاحبه مختلج راعش نائح.. وجلاميد تتدحرج نحو زجاج خجلي، وفكي شهوتي تنطبق من الأعلى ومن الأسفل، ولا أستريح، وأشعر بأصوات روحي تتهدج كأنها آتية من مغارة بحرية عميقة، وأشعر بالبئر تسقط في أعماقي..
***
الطبيب قال لي أنت كائن ذهني. أغمض عينيك وانظر في أعماق أعماقك حيث العدم..أطفئ نور كل فكرة ناتئة متقدمة، عش عدميا ..أوساذجا ولو لحين.
أغمض عيني..أنتقل من أعماقي إلى أعماق أعماقي..إلى الأعمق، أرى ثوارا - يملأون العالم ضجيجا- ممتثلين لمقولة جيفارا- حتى لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء- قال الثائر الأحمر وهو مضرج بدمائه:
- سأموت
من أجل أي شيء تموت؟
من أجل الفكرة.
تبقى الفكرة وتموت أنت !؟
بل تبقى الفكرة، وتبقى أنت..هذه وصيتي الأخيرة وأنت وريثي الوحيد..
الإنسان أم الفكرة..وأشحد سكاكين أفكاري..أحاور نفسي. أفاوضها. أناقشها. أغالطها.أحاربها وأمسك بتلابيب الفكرة قائلا:
هذا خلاف طويل الذيل قليل النيل..إما أن أنهيه أو أنتهي.
أصرخ: - أيها الطبيب المداوي، إن إغماضة عيني تجعلني أكثر عمقا، أريد أن أكون أكثر سطحية..متى لم تشعر مثلي بالقطارات المزعجة وصفيرها يذبحني من الأذن إلى الأذن فلا أنت الطبيب ولا أنت المداوي..
***
ولأول مرة يستريح بين الشراشف البيضاء، لا يرى إلا ما يريده، بياض عيني الطبيب من غير سواد، وبضع شعيرات بيضاء على رأسه، ووزرة أشد بياضا. صوت الطبيب الممعن في الصمت يقر أن تجربة الكتاب الأبيض تجربة ناجحة.. فهذا الكاتب الذي أصبحت قعقعة أفكاره تجتاحه، وغدا كاللذي امتلأ وفاض جملا وأصواتا وصورا، ويكاد يختنق ضجيجا بها. ها هو بعد أن قرأ كتابا أبيضا بالكامل قد استعاد بعض عذرية الصمت..كان وهو يقلب صفحات الكتاب لا يفكر في أي شيء، يركز في البياض الحليبي، ويبحث عن النقطة الصفر. نقطة البداية والنهاية.. ويا للمفارقة الكاتب الذي أبدع وأمتع وأقنع، قائد الجيوش الجرارة من الجمل والأفكار. صاحب المجلدات والكتب والأعمدة في الجرائد اليومية ها هو يستسلم لسلطة كتاب أبيض.


شكيب أريج 01/10/2008
matarmatar@maktoob.

هناك 12 تعليقًا:

Jack Sparrow يقول...

كان كائناً ذهنياً
فغدا رهن بأس الموت
في حضن اول فكرة ..
يرتمي
.
.
تصويرك لحالة العصف الذهني المستمرة التي يمر بها صاحبنا مذهلة
اقسم انني هذا الرجل الجالس امام الطبيب هناك
و ان كنت قبل اللحظة متأكدا بكامل الثقة ان حالتي عامةو ان الناس في الغالب يفكرون
ثم ما هذه الفكرة العبقرية ؟
" كتاب ابيض "
انها تصوير متقن الصنع لما يود ان يحصل عليه ذلك الكائن الذهني
لحظات انعتاق من الفكر
لحظات من الحرية
.
.
ايها النبراس
اتحداك ان تجد تعليقا وحيدا يفي هذه القصة حقها
لم تترك لنا سوى الاطراء و المديح و كلاهما لا يليق بما كتبت
فقط تأكد انني و بكل " انانية " اعجبت بهذا المقطع جدا

مهداة إلى: Jack Sparrow

ان تكون الهدية شىء مثل هذه القصة الرائعة .. فهذا يعني انني مخظوظ لانني عثرت عليك .. في هذا الزمن الذي لا تجد فيه حتى من تشتري منه سطرا واحدا
يشبه ما كتبت

احبك في الله

Desert cat يقول...

صديقى الجميل رجعت نورت الدنيا ولو انى لى عتاب عليك لانك اتاخرت جدا وطولت فى الغيبة علينا وحرمتنا من ابدعاتك
قرأت البوست مرات ومرات وفى كل مرة تعجز كلماتى عن التعبير على مدى اعجابى بافكارك المتدفقة المتتابعة المتناغمة
دمت بالف ود وفى احسن حال

نبراس العتمة يقول...

العزيز جاك سبارو..أما تكف عن تعليقاتك/القصائد..ألا تكف عن الابداع حتى في التعليقات..
أنا عن نفسي لا أصدق الى الآن أني تخلصت من وعدي/ العقدة لك بهدية تناسب مقابك..
عن القصة، ذاتيتي تمنعني من تقويمها، الشيء الملتصق بك من الصعب أن تراه على حقيقته أو شبه حقيقته لذا فأنا حقيقة متخوف أن تكون احدى هرطقاتي،
عن الاطراء والمديح، فقد كنت أنتظر من يحرق سفني في عرض البحر..ألم يكن ذاك مصير قصتين من قبل نشرتهما قبل سنتين في موقع القصة العربية- تجد هناك التعليقات التي أخجلتني-، ومن يومها توقفت عن كتابة القصة معترفا بقصوري..

العزيز جاك سبارو أنا الأسعد بصديق يعرف كيف يتغلغل بين شقوق الروح،وكيف يخلق الابتسامات بدل الحواجب المعقوفة

مودتي الممتدة كأشرعة في بحر بلا حدود..

نبراس العتمة يقول...

العزيزة جدا.. قطة الصحراء..
عتابك وخزات في مسام روحي..أتحملها، لأني أقدر أنك كنت تتفقدين منارتي من حين الى حين، ولأني فخور بصداقتك أيها العزيزة جدا..
غيابي اضطراري بسبب عملي وأسرتي وابني الصغير أيمن ذي الجناحين الغضين والأنامل الناعمة، ولا بد لي من التواجد في أكثر من مكان، لكني سأظل وفيا لعالم التدوين وأبدا لن أعتزله رغم الاكراهات وفي الغياب حضور وكما يقال زر غبا تزدد حبا..
منذ الآن سأصبح مثل بابا نويل أغيب وأحضر ومعي هدايا..
مودتي أيتها الغالية جدا

رجل من غمار الموالى يقول...

هذا قدر يا أخى
...
قدر المخلوقات الحقة التى رضت أن تحمل الأمانةوالمسئولية ..العناء
....
تدوينة رائعة
تحياتى

elsha3er يقول...

نبراس العتمة

والله واحشنى واتمنى ان تكون بخير

احمد الشاعر

عازف الناى الحزين يقول...

الطبيب قال لي أنت كائن ذهني. أغمض عينيك وانظر في أعماق أعماقك حيث العدم..أطفئ نور كل فكرة ناتئة متقدمة، عش عدميا ..أوساذجا ولو لحين.


رائعة بحق
أكاد أقول لك أنك تتحدث عنى
و هذا هو سر عبقريتك
أنك تكتب و كأنك تتحدث عن كل شخص يقرا هذا الكلام
تقبل تحياتى
..................
مستنيينك على لا للنميمة النهارده عشان الحملة هتبدأ بكرة ان شاء الله و عايزين نرتب الدنيا
و مستنيين منك بوست على مدونتك الجميلة دى عننا النهارده ان شاء الله

نبراس العتمة يقول...

رجل في غمار الموالي..ما أخبارك أيها الرائع.؟

أكيد أنا أعرفك أنت لست ممن يتأففون من ضجيج الفكرة فهي قدر كل كائن ذهني، أترضى بالمصير البروميتيوسي؟
ألا يمكن أن ينبثق نسل دهني لا يؤمن بصخب الفكرة، وفي نفس الآن ينساب فكريا في الأدهان والعقول والمخاخ لا يفجرها ولا يغزوها وانما يربط بينه وبينها علاقة مودة هادئة..طبعا منتهى المثالية والطوباوية..لكن لو لم يحلم الكائن الدهني لمات كمدا
مودتي المنسلة بهدوء الى ثخوم الذاكرة عفوا القلب

نبراس العتمة يقول...

شاعري العزيز..أحيي عاليا الجباه التي لا تنحني والكائن الذهني يخاطبك أيها الثائر الأحمر
مودتي الحمراء

نبراس العتمة يقول...

العازف الحزين حقيقة توجد مفاطع في القصة هي في حد ذاتها رسائل لمن أشترك معهم الولع الذهني..
وشرف لي أن أجيد التخاطر والتعبير عن مخبوءات أعزائي وأصدقائي الدين أحترم فكرهم..
مودتي الغالية

أسماء علي يقول...

صديقي المبدع \ شكيب

ذلك الزخم المتزاحم في فضاء عقولنا .. تتزاحم الأفكار إلى حد اللاحد ..
هنا نشعر بالإرهاق

و نبحث عن ذلك الكتاب الأبيض

عن تلك الصفحات الحليبية كي يغتسل الزخم بصفاء الحليب ..

لكن لا مفر

من أصبح كائنا ذهنيا سيظل كذلك

لا مهرب يا عزيزي

لكن هل تعتقد أننا سنجد ذلك الكتاب يوما

أم أن الكتاب في حد ذاته هو النهاية لنا و لذلك الزخم ..!

كلمة ابداع لا تليق

لإنها قليلة على ماقرأته ..

نبراس العتمة يقول...

د. أسماء علي
قارئ واحد مثلك يساوي شعب..
سأبقى كائنا ذهنيا ما دام معي كائنات دهنية بمثل هذا الصفاء والود..
لكن ألا يبحث الواحد منا عن لحظة عدمية يستشعر فيها نفسه كذلك، هو عري البياض وليس عري الأخلاق.. حتى الشجرة تمتلك هذا الشعور في خريفها..
دمت مبدعة أيتها العزيزة ويسرني أنه ما زالت حمائم في مثل مودتك تحط على شجرة الفوانيس
مودتي الغارقة في محيط بلا سطح وبلا أعماق