الخميس، 13 مارس 2008

مع الدكتور علي الوردي

مع الدكتور علي الوردي

الحلقة الثانية
بين علي ومعاوية *


يعجب الدكتور علي الوردي لتورط الكثير من المفكرين والمؤرخين في المفاضلة بين علي وعمر وأبي بكر ومعاوية فجدال الجاحظ مع الاسكافي لم يخرج عن إطار من الأفضل: هل هو علي أم أبي بكر؟ وذلك جدال المغالبة من أجل المغالبة، فلو كان علي أو عمر سيرجعان لوجدنا لهؤلاء عذرا، فنحن لا ندرس التاريخ إلا لنستفيد منه مستقبلا ومن تم فلا يهمنا أبطال التاريخ إلا بقدر المبادئ التي حملوها ومبلغ تضحيتهم في سبيلها.
من هذا المنطلق ينطلق علي الوردي في المفاضلة بين علي ومعاوية على اعتبار أنهما يكونان اتجاهين فاصلين في التاريخ الإسلامي.

1-أكثرية على غير الصواب:
(إن أموال الأمة للأمة) هي حقيقة بينة ولا مجال للاجتهاد في الرأي أو الخلاف فيه، ولكن تلبس الباطل بالحق وتلبيس الحق بالباطل هو ما يجعل الإنسان حائرا مرتبكا.
يرى الوردي أن علي كان على حق والأكثرية كانت على غير صواب، وأن علي رأى مصلحة الأكثرية ولم تدرك هذه الأخيرة أنذاك مصلحتها.
هذا النقاش سيضعنا في صلب إشكالية الديمقراطية، فنحن اليوم نحسب أصوات الناخبين ونميل حيث تميل أكثريتهم. والأكثرية ليست بالضرورة على صواب. لذلك –حسب الوردي دائما- فإن ما يجعل النظام الديمقراطي ناضجا هو الشرائط التالية: (نتشار التعليم/وعي الرأي العام/ الإعلام الجاد/ الأحزاب المؤطرة..). (مهزلة العقل البشري- ص58)

2-بين الشعارات والمبادئ:
عبرة أخرى يطرحها الوردي انطلاقا من المفاضلة بين معاوية وعلي أو بين الشعار المبدأ والفعل المؤسس للتغيير. إذ يقر الوردي بوجود تناقض صارخ بين الشعارات (الحقيقة التي نؤمن بها) وبين الفعل. فقلائل هم من يتشبتون بالمبادئ التي يؤمنون بها، خاصة حين يتأزم الموقف (مهزلة العقل البشري- ص58)
يمكن أن نقول أن علي بن أبي طالب قدم درسا للأمة في هذا الصدد، فالناس على عهده أحبوا الحق بأقوالهم وكرهوه بأعمالهم (ص59) ألم يقل الفرزدق للحسين بن علي: (قلوب الناس معك وسيوفهم عليك!"؟ وذلك قول عقيل أيضا: (إن أخي خير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي) (ص61).
إننا في الواقع نحب ذلك الحب الشعري ونلهج به دون أن نعرف خدوده في الحياة العملية.
حين نقارن بين معاوية وعلي في حاضرنا تجمع الأمة على فضل علي شيعة وسنة لأنهم راوا أن سياسة علي كانت أنفع لهم على المدى البعيد وسياسة معاوية كانت براقة ومغرية في الظاهر. (ص62).
فطن الناس متأخرين إلى أنهم استبدلوا عليا بنيرون الشرق الحجاج بن يوسف فندموا. وترك الناس عليا في حياته ثم تمسكوا به بعد وفاته وتلك هي المأساة الكبرى. (ص66).

· تلخيص لفصل من فصول كتاب (مهزلة العقل البشري) للدكتور علي الوردي الطبعة الثانية-1994 دار كوفان- لندن.


الحلقة الثالثة
عيب المدينة الفاضلة *
يقدم الدكتور علي الوردي حكاية طريفة تتعلق بأعرابي نظر إلى مكتبة عامرة بالكتب القديمة فقال: "إني أعرف جميع ما في هذه الكتب.كلها تقول أيها الإنسان كن خيرا " (مهزلة العقل البشري.ص73).
إنها قصة تصلح لأن تلخص لنا الفكر الطوباوي والنظريات التي تدور في فلك المدن الفاضلة والمثل العليا، ومع ذلك لا بأس أن نذكر ببعض الأمثلة كما أوردها الدكتور علي الوردي:
- الفارابي في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) يبدي حماسه لبناء مجتمع فاضل من أهم خصائصه وجود رئيس صالح هو "الملك الفيلسوف" عند أفلاطون.
- في كتاب "عقائد الشيعة" يقول المؤلف ما خلاصته أن البشر حين يتوادون ويتحدون يرتفع بينهم الظلم والعدوان ولا يستطيع الطغاة الاستبداد بهم عند ذلك.(ص70).
معظم أفكار القدماء هي من هذا النوع، فهي أفكار رائعة وجميلة، لكن فيها عيب واحد كبير هي أنها غير عملية.
ينتقد الدكتور علي الوردي هذا الفكر:
· فأولا لو أن البشر وصلوا إلى ما ينشدون لوقفت الحياة بهم ولفنيت الحضارة، إن الحياة تفاعل وتنازع وتناقض.
ويوضح الوردي مبدأ التنازع والتناقض في حياتنا السياسية المعاصرة، إذ أن الحزب المعارض ليس أشرف من الحزب الحاكم، وهو عندما يصل إلى الحكم لا يستطيع أن يخرج عن الطبيعة البشرية فيصبح مثاليا ولذا فهو يحتاج مرة أخرى إلى من يعارضه وينتقده. (ص77) ولتبيان مبلغ الهوة بين مجتمع قديم ومجتمع معاصر يسوق الوردي مثالا عن الفرق بين هارون الرشيد ووزير دولة حديثة، فهارون يشتري الجواري من مال المسلمين ولا من محاسب، أما الوزير في الدولة الحديثة فهو حين يود صرف مبلغ لزوجته يخاف من الرأي العام والمعارضة التي ستتخذها فرصة لإسقاطه من منصبه (ص80).

· ثانيا: المثل العليا لدى السلف هي طوباوية فوق السحاب، أما المثل التي يدعو إليها الثوار اليوم فهي واطئة وغير تعجيزية.
· ثالثا: الفلاسفة والمفكرون اعتقدوا بأفكارهم السامية وذموا العامة واعتبروها كالأطفال متناسين الطبيعة البشرية وأنهم بشر، وأنهم إلى تنازع منتهون.
ننتهي مرة أخرى إلى فكرة التنازع الذي ذمه السلف واعتبروا أن عالما نقيا من الشر ومدنا عاجية شيء ممكن إذا تخلينا عن التنازع وهو الشيء المستحيل، لكن التنازع والصراع أمر يقوم على السيف والعنف؟
يجيبنا الدكتور علي الوردي عن هذا السؤال معتبرا أن التنازع قديما كان يقوم على حد السيف لأن من يقول للسلطان أنك محطئ ظالم يجد السيف والنطع أمامه ويهب رجال الدين لاتهامه بالزندقة، ولذلك كان التطور الحضاري بطيئا.
أما اليوم فيكفي الحزب المعارض أن يدعو لمبادئه عن طريق الصحافة والإذاعة و.. فيرد عليه الحزب الحاكم بصحافته وإذاعته والرأي العام واقف يتفرج ولا يشارك إلا وقت الانتخابات في صناديق الاقتراع، وكفى الله المؤمنين شر القتال.(ص82) هذه التغييرات يعزوها الوردي إلى عوامل أهمها: اختراع البارود والأسلحة النارية الحديثة واختراع الطباعة. (ص82) وهي عوامل فارقة في التأسيس لمجتمعات تقدمية بدل تشكيل قصور الرمال في الفلسفات الباهتة.
وفي الختام نود أن نقول أنه كثيرا ما تثخم الكتب أذهاننا بمقولة الخير والمثل العليا دون أن تضع لبنة واحدة لتحقيق النـزر اليسير من هذه المثل. وآثار هذه الكتب لا يزال متبديا في لغة الخشب المتفشية في الخطاب العام، لذلك فما أحوجنا إلى رؤى متبصرة توازن بين ما هو مثالي وواقعي، بين الممكن واللاممكن، بين الحقيقة والسراب.

· تلخيص لفصل من فصول كتاب (مهزلة العقل البشري) للدكتور علي الوردي الطبعة الثانية-1994 دار كوفان- لندن.
(الحلقة الأولى)

بين المنطق القديم والمنطق الحديث *

يبحث الدكتور الوردي في أسس التفكير البشري، وينطلق منذ البداية من المفاضلة بين منطق حديث ومنطق قديم، ويذهب إلى حد اعتبار ما جاء به الفارابي وابن طفيل و أرسطو وأفلاطون وغيرهم لغو أطفال مقارنة مع ما توصل إليه الفكر الحديث.
1- منطق المتعصبين:
لا يرى الوردي في المنطق القديم إلا تمجيدا للعقل يصل إلى ترسيخ معتقدات بالية موروثة، وهو لا يلوم رجال الدين عند توظيف العقل، لكنه يرى أن دفاعهم عن عقائدهم يستند إلى منطق بال ويضرب لنا مثالا على تخلخل هذا المنطق وتهافته.
في مقدمة كتاب "السقيفة" لمحمد رظا المظفر يقول المقدم للكتاب: " قد قدر له أن ينتهي في بحثه إلى حيث تنتهي عقيدته المذهبية فليس ذلك إلا لأن منهجه العميق انتهى به الى هذه النهاية" يعلق الوردي على هذا التقديم بأن صاحبه يدعي الموضوعية الخالصة المجردة عن أي عاطفة، ثم يعود ليقول أن هذه الموضوعية انتهت بالمؤلف إلى عقيدته المذهبية. ما يؤكد عليه الوردي هنا هو الانطلاق من النتيجة لتبيان السبب وذلك ما يوضحه بجلاء حين يقول أن الإنسان يؤمن بعقيدته التي ورثها عن آبائه أولا ثم يبدأ بالتفكير فيها أخيرا، وتفكيره غالبا حول تأييد تلك العقيدة.
يخلص الوردي إلى حقيقة واحدة مفادها أن: " العقل البشري لم يبتكر مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة" (مهزلة العقل البشري.ص41)
وإمعانا في التوضيح يضرب الدكتور الوردي أمثلة من التاريخ الاسلامي:
- المثال الأول هو لسلطان مؤمن بالله ذبح ذات يوم مئة ألف ممن كانوا على عقيدة غير العقيدة التي نشأ هو عليها ثم جعل من جماجم هؤلاء القتلى منارة عالية وصعد عليها مؤذن يصيح بأعلى صوته: لا إله إلا الله (أحمد أمين-ظهر الإسلام-ج4-ص131).
- المثال الثاني هو لحملة عسكرية ضد اليزيديين، ذهبت إلى القرى اليزيدية فقتلت أطفالها واستباحت نساءها وجاءت بالأحياء ليخيروا بين حد السيف وشهادة "لا إله إلا الله".
يرى الوردي أن المنطق القديم المتعصب هو المسؤول عن الحروب الدينية والسياسية لأنه منطق دوغمائي يصلح للدفاع والهجوم، ولا يصلح لاكتشاف حقائق جديدة.
في معرض تحليله لمكيدة الحق والحقيقة في التاريخ الإسلامي يقول أنه مع انتصارات الإسلام ازداد الإيمان به حتى رأينا المسلمين يضطهدون من كان يدخل فيه أول الأمر. (مهزلة العقل البشري.ص43).
ويرى أن أولئك الذين يتشدقون بحب الرسول لا يقلون عن أبي جهل وأبي سفيان مواجهة لكل جديد. وحبهم للرسول هو نتيجة بيئة تقدس النبي محمدا ترعرعوا فيها ليس إلا.



2- المنطق الحديث:

وفي المقابل فإن المنطق الحديث إن لم يكن الأجدى فهو الحتمي، وهو منطق وفكر نقدي أول ما يقوم عليه نقد الفكر القديم ووصفه بالخرافة. ومن جهة أخرى فالفكر الحديث هو فكر عقلاني يعتمد منهجا علميا دقيقا لا بد لصاحبه أن يكون مشككا حائرا قبل أن يبدأ البحث فهو لا ينطلق من مسلمات.
وفي النهاية يرى الدكتور الوردي أن الإنسان كالحصان الذي يجر العربة وقد وضع على عينيه إطارا فهو لا يرى إلا الأشياء التي تقع في مجال إطاره ولا يتفتح فكر ما إلا حين يغير الإطار (المحيط) حوله فيصطدم بمفاهيم وأفكار غير مألوفة فيتوسع إطاره.
إن مرونة هذا الإطار رهينة بانفتاح المرء أو انعزاله وتزمته، فكلما كان الإنسان أكثر انعزالا كلما كان أكثر تعصبا يقول الوردي مقدما مثالا على ذلك: "هذا أمر شاهدنا أثره بوضوح في المرأة عندما حجزناها في البيت وضيقنا عليها أفق التجوال والاختلاط صار عقلها ساذجا"(مهزلة العقل البشري.ص47).

وأخيرا فإن المنطق الحديث نسخ مبدأ (أحادية الحقيقة) فهو يرى أن الحق لا يمكن أن يحتكره فريق من الناس وحتمية العصر الجديد تفرض الاستغناء عن المنطق المحدود المنغلق. (مهزلة العقل البشري.ص50).



تلخيص لفصل من فصول كتاب (مهزلة العقل البشري) للدكتور علي الوردي الطبعة الثانية-1994داكوفان- لندن
.