الثلاثاء، 15 يوليوز 2008

رواية جسر على نهر درينا*حين يكون طموح الرواية هو امتصاص كامل الحياة الإنسانية

شكيب أريج
رواية جسر على نهر درينا*
حين يكون طموح الرواية هو امتصاص كامل الحياة الإنسانية
في "جسر على نهر درينا" يبلغ طموح الروائي اليوغوسلافي "ايفو أندريتش"* إلى أبعد من التوثيق التاريخي لما يحيط بالجسر من أحاديث وحكايا، إذ نحس أن الروائي يحتفي باليومي والمتداول والعميق ليبلور صورة عالم متشعب، مسترسل، مثله مثل النهر الذي يجري في حين أن الجسر يظل شاهدا وتابتا وأبديا.
وأكثر ما يميز الرواية هو مجاراتها لوعي الناس وأحاسيسهم وهو ما يؤكده الناشر: " ما أعمق نفاذ ايفو أندريش إلى النفس الإنسانية وما أقوى براعته في رسم الوجوه النفسية.." وإن يكن عالم الرواية الشاسع بتعدد الشخصيات والنزعات والثقافات (تركي، صربي، نمساوي/..مسلم، مسيحي، يهودي..*) إن يكن عالما عصيا على الإمساك فإن إفو أندريش يملك تلك الحنكة التي تجعله يوسع أفق الرواية لتكون وثيقة فنية أدبية وتاريخية وفلسفية وو..
لكن ما شد انتباهي أكثر هو ذلك الرصد المميز لطبيعة الوعي وأسس الفكر المسيطر على أهواء الناس، مما يجعلني أتساءل كيف تسنى لإفو أندريش أن يصور حركة الوعي والفكر ويتابعه في غير ما تكلف أو تحيز أو مغالاة أو ادعاء.
حين فكر الوزير محمد باشا في بناء الجسر لم يكن يدري أنه يواجه بهذه الفكرة وعيا سلبيا مترسخا يعادي كل جديد، ولا يجيد إلا بناء الأساطير التيئيسية التي تعمل عملها في فكر الأجيال المتعاقبة، وحين تتعامل السلطة التركية مع هذا التيار، لا تواجهه على أساس أنه فكر سائد بل يعتبر "عابد أغا" المكلف بالإشراف على بناء الجسر أن الأمر محض تمرد فردي، لذلك فهو لا يتورع عن إنزال عقاب لا يخطر على بال بفلاح صغير " لقد أدخل الخازوق في الرجل كما يدخل السيخ في الخروف، لا فرق بين الأمرين إلا أن الخازوق لم يخرج من الفم، بل من الظهر، كما أنه لم يصب الأمعاء ولا القلب ولا الرئتين بكبير أذى.." ( ص60) هكذا فإن منظر الفلاح المخوزق أثر على الناس ليجدوا مبررات جديدة لأسطرة التاريخ.
في مقطع آخر من الرواية، وفي حقبة أخرى يحتدم الصراع بين عثمان قرة مانيلا ومفتي بليفيا من جهة فهما يدعوان الناس إلى مقاومة مميتة من أجل الحياة بكرامة أو الموت بكرامة، وبين علي خجا المحبط المتشائم، وفي غمرة هذا الجو المشحون فكريا تسقط فيشينجراد بسبب وعي الناس الانتظاري.
تصور الرواية الناس والأشياء وهي تكتسي معاني جديدة، ونتتبع ببط التغيرات، بناء الفنادق، الحانات، وضع فوانيس على الطريق، مد خط للسكة الحديدية، مد أنابيب المياه إلى المنازل، ظهور بورديل بالمدينة، وأمام هذه التبدلات تبدو كل مقاومة خرقاء " إن علي خجا واحد من القلائل الذين لم يقبلوا شيئا من الأشياء الجديدة، ومن التبدلات التي جاء بها الأجانب، لا في ملبسه، ولا في آرائه، ولا في اللغة.." ( ص257)
تسير حركة السرد بشكل حثيث لتجعلك تعترف أن ايفو أندريش يختزن الحياة بمعناها الرحب في ثقب إبرة، وهو حين يتحسر على حياة الكابيا القديمة فإنك ملزم أن تشاركه ذلك الحنين، لأنك قد عشت تلك الحياة.
ولعل أجمل ما صوره إفو أندريش هو تلك الأحاديث بين الشباب على جسر نهر درينا:
"- أنت تضع العربة أمام الأبقار..يستحيل قيام أي تشكيل سياسي باق متين في أي مكان من الأمكنة وفي أي ظرف من الظروف، فلا بد أولا من تحرير الطبقات المستغلة، أي أكثرية الشعب حتى يمكن خلق الشروط الواقعية لقيام دولة مستقلة.." ( ص299)
ثم ما يلبت صوت آخر أن يقول: " إن قواعد العالم وأسس الحياة والعلاقات بين البشر معينة لقرون وقرون، هذا لا يعني أنها لا تتغير، لكنها إذا قيست بمدة حياة إنسانية بدت أبدية. إن النسبة بين طولها وطول حياة إنسانية كالنسبة بين سطح النهر المضطرب المتحرك السريع وقاعه الراكن الوطيد الذي يتبدل تبديلا بطيئا لا يدرك.." ( ص309)
إن كل ما تعج به الرواية هو الحياة الإنسانية وإن التغيرات هي نبض الرواية، لكن من يتحكم في هذه التغيرات؟ طبعا الروائي ينفي ويترك باختيار فيتش هذا الشاب التركي المسلم يهمس إلى نفسه: " الرغبة في التغيرات المفاجئة والتفكير في تحقيقها بالقوة يظهران بين الناس في كثير من الأحيان ظهور المرض" فهو يعتبر أن " رغبة البشر كالريح تثير الغبار من مكان إلى مكان، وقد تحجب الأفق تماما في بعض الأحيان، لكنها تهدأ في آخر الأمر وتزول مخلفة وراءها الصورة القديمة الأبدية للعالم" ( ص310)
في مقطع آخر من الرواية يجري نقاش فكري محتدم بين شابين مثقفين هما "ستيكوفيتش" و" جلاستشاتين" يكشف النقاش الخطوط العريضة لفكري طلابي ساد حينها: " التقدم التكنيكي والسلام النسبي في العالم قد أوجدا نوعا من الهدوء المؤقت، أوجدا جوا خاصا مصطنعا غير واقعي يتاح فيه لطبقة من الناس، هي طبقة أولئك الذين يسمون بالمثقفين، أن تنصرف بحرية إلى اللعب بالأفكار، لعب المتعطلين اللاهين.." ( ص314)
عند هذه الحدود يضعنا الروائي أمام نتيجة مخيبة وهي أن ما يشهده الطلبة الشباب من تنوير ما هو في حقيقة الأمر إلا لعب بالأفكار وأنه لا صلة حقيقية بين الفكر والواقع، وهو ما يؤكده جلاستشاتين مخاطبا ستيكوفيتش: " الواقع أن العجلات التي تدور في رؤوسكم ليس لها أي صلة بحياة الجمهور ولا الحياة العامة"( ص314)
هكذا تنجح الرواية في تحليل واقع فكري، فهي تحاول أن تستوعب ما أمكن الحياة اليومية وتصور لنا أيضا كيف ينظر إلى هذه الحياة. وهو الأمر الذي نبهت إليه لوتيكا العجوز اليهودية صاحبة الفندق حين فكرت بعمق: " كأن الجيل الجديد يهتم بنظرته إلى الحياة أكثر من اهتمامه بالحياة نفسها" ( ص325)
يـــــــعيش
- الشخصية الورقية (الجيل الأول)-----------------------------------------◄ الحياة.

يعيش ينظر
- الشخصية الورقية(الجيل الثاني) ----------------◄الحياة -----------◄ إلى الحياة.

يعيش وينظر
- القارئ -----------------------------------------------◄ إلى الحياة.

حين نطالع رواية " جسر على نهر درينا" يبدو لنا السرد في أكثره نسبيا، وتلك احترافية من طرف السارد حتى يظهر الآفاق الشاسعة للسرد موازاة مع آفاق الواقع اللامتناهية، ولذلك فلكل شخصية موقف.
أحمد أغا شيتا ظل راسخا على موقفه من الجسر فهو لا يصدق أنه بالامكان أن تأتي فكرة الجسر بالخير على المدينة فنجده يصر قائلا" انتظروا لسوف ترون ماذا يبقى من الجسر حين يجيء الفيضان.." ( ص79)
لرجال الدين أيضا مواقف، فقد كان الاحتلال النمساوي امتحانا عسيرا لهم فأبان القس نيقولا والملا ابراهيم والحاخام اليهودي عن وعي الادعان والرضوخ لأي ريح قوية.
العجوز لوتيكا انتهى بها المطاف لأن تقول بنبرة حزينة : " جاء الزمن الأخير، الزمان الذي ليس فيه نظام ولا قانون..." ( ص326)

عادة ما يكون أقصى طموح الرواية هو تصوير شخصية لغز أو الاحتفاء بقضية مهمة، لكن طموح رواية الجسر كان أبعد من ذلك، إذ هي رواية تسبر أعماق الحياة الإنسانية خلال مسيرة قرنين، لذلك فهي لا تقتصر على تصوير عالم ما بنظرة أحادية، بل تنظر إلى الكون بعيون لا حصر لها.
إن رواية الجسر رواية تتعدد فيها العوالم والشخصيات والرؤى.. فتبرز غنى لا مثيل له. وتجعلنا نفكر مليا في الإمكانات التي يختزنها جنس الرواية لتطويق كل شيء.


· رواية " جسر على نهر درينا" ايفو أندريش –ترجمة الدكتور سامي الدروبي- دار الوحدة- الطبعة الثالثة 1981
· إيفو أندريش: ولد بمدينة ترافنيك بالبوسنة سنة 1892، ينتمي إلى أسرة كاثوليكية يعمل أفرادها في الحرف والتجارة، توفي أبوه فجأة ، ولما يتجاوز الثانية من عمره، فلجأت أمه التي ترملت في الحادية والعشرين إلى أهل لها بمدينة فيشيجراد، وفيها قضى إيفو طفولته واختلف إلى المدرسة الالبتدائية ثم أتم تعليمه الثانوي بسراييفو حيث قضى شبابه وتابع ايفو دراسته الجامعية في جامعات زغرب وفيينا وكراكوفيا حيث تخصص في التاريخ واللغات السلافية . اعتقلته السلطات النمساوية عام 1914 لانتمائه إلى منظمات الشباب القومية الثورية، بعد السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية إلى حين صدور عفو عام عنه سنة 1917 فتابع دراسته ليحصل على درجة الدكتوراة من جامعة جراتش. بعد ذلك سينتس إيفو أندريش للسلك الديبلوماسي ليتاح له أن يقضي مدد طويلة وقصيرة في عواصم ومدن أوروبية مختلفة.ومن عام 1993 إلى 1941 سيعين وزيرا ليوغوسلافيا في برلين، ولم تصرف الديبلوماسية ايفو عن الأدب إذ نشر بدءا من عام 1918 يومياته ونشر نثرا غنائيا بعنوان "قلق" وقصص "طريق عالية دييرزبليز" و"أقاصيص جديدة" حتى عرف بكونه قصاص. ومن أبرز أعماله الروائية " أخبار ترافنيك" و"الآنسة". أما رواية " جسر على نهر درينا" فقد استحق عليها جائزة نوبل سنة 1961.



هناك تعليقان (2):

على باب الله يقول...

عرضك للرواية جميل جداً

شوقتني ليها

نبراس العتمة يقول...

تحياتي لك أيها الجميل .. أسعدني تواصلك ومرورك